1. تنويه:
    تم إيقاف التسجيل في المنتدى مؤقتا، للتواصل أو طلب الانضمام للمنتدى، نرجو التواصل معنا.
    الأعضاء السابقون ما يزال بإمكانهم تسجيل الدخول.

]المناسبة بين الأبنية المتماثلة في القرآن الكريم دراسة في دلالة المبنى على المعنى

هذا النقاش في 'المنتدى الديني والشرعي' بدأه اسماعيل رضوان، ‏1 سبتمبر 2009.

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    المناسبة بين الأبنية المتماثلة في القرآن الكريم دراسة في دلالة المبنى على المعنى



    د. عمرو خاطر عبد الغني وهدان
    كلية البنات – جامعة طيبة
    الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد...،
    فإنَّ الاهتمام بكتاب الله عزَّ وجل – تلاوة ودرسًا – أفضل ما تُقضى فيه الأوقات، وتُفنى فيه الأيَّام والسُّنون فالسَّعيد من صرفه همَّته وفكره إليه.
    هذا وإنَّ الأبنية المتماثلة بين ألفاظ القرآن الكريم مع التَّنوُّع في التَّعريف والتَّنكير، والتَّذكير والتَّأنيث، والاسميَّة والفعليَّة، وما ينطوي تحتها من جزئيات تُعد وجهًا من وجوه إعجاز هذا الكتاب المبارك، ولونًا من ألوان بلاغته وفصاحته.
    وليس مجيء تلك الأبنية تكرارًا،ولغوًا؛ لأنَّه يستحيل عليه الاختلاف والحشو واللَّغو ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت 42]. فالأبنية المتماثلة وجه من وجوه إعجازه البيانيِّ، فما ورد معرَّفًا في موطن، ومنكَّرًا في موطن آخر، أو مذكَّرًا هنا ومؤنَّثًا هناك.. الخ إنَّما هو لحكمة تُطلب وفائدة تُرام، وليس تكرارًا بلا فائدة، يقول الخطيب الإسكافيُّ: "إذا أورد الحكيم – تقدَّست أسماؤه – آية على لفظة مخصوصة، ثمَّ أعادها في موضع آخر من القرآن، وقد غيَّر لفظة عمَّا كانت عليه في الأولى فلابد من حكمة تُطلب، وإن أدركتموها فقد ظفرتم، وإن لم تدركوها فليس لأنَّه لا حكمة هناك، بل جهلتم"[1].
    كما أنَّ ما يرد في الكتاب العزيز "ممَّا ظاهره التَّكرار زيادة فائدة، أو تتميم معنى، أو لبناء غيره من الكلام عليه"[2].
    فهذا التَّحوُّل في الصِّيغ في السِّياق القرآنيِّ، أو العُدُول من صيغة إلى صيغة أخرى يُعدُّ أحد روافد التَّحليل اللُّغويِّ، بل يمثِّل إحدى الوسائل التي تساعد على التَّماسك الشَّكليِّ، وتُعدُّ مدخلاً من مداخل التَّحليل اللُّغويِّ للنَّص؛ للوصول إلى المضمون أو الغاية الدَّلاليَّة من تشاكل الألفاظ، يقول ابن الأثير: "اعلم أيُّها المتوشِّح لمعرفة علم البيان، أنَّ العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية اقتضت ذلك، وهو لا يتوخَّاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة و البلاغة، الذي اطَّلع على أسرارها، وفتَّش عن دفائنها، ولا تجد ذلك في كلِّ كلام فإنَّه من أشكال ضروب علم البيان، وأدقِّها، وأغمضها طريقًا"[3].
    والبحث في دلالة الأبنية المتماثلة، بحث في التَّنوُّع الأسلوبيِّ؛ لأنَّه مرتبط بالتَّحليل اللُّغويِّ، فالمغايرة بين الألفاظ ظاهرة أسلوبيَّة خاضعة للسِّياق، فمتى كان المقام مقتضيًا للمغايرة، ومراوحة الأسلوب بين فنٍّ وفنٍّ وجدنا النَّظم القرآنيَّ منسجمًا مع هذا التَّغايُر بأبلغ سبيل، ومتى كان المقام مقتضيًا لاستمرار الأسلوب على طريقة، أو فنٍّ واحد وجدت البلاغة متحقِّقة في النَّظم.
    ومن ثمَّ سأحاول إبراز السِّمات اللُّغويَّة التي يستعملها الخطاب القرآنيُّ في ظاهرة الأبنية المتماثلة، مبيِّنًا القيمة الصَّرفيَّة؛ لتداخل الصِّيغ في الاستعمال اللُّغويِّ محتكمًا إلى السِّياق.
    وتُعدُّ المناسبة في البيان القرآنيِّ موضوعًا دقيقًا، وجليل الشَّأن في آنٍ معًا، دقيقًا؛ لأنَّه يبحث ويتناول وجهًا لطيفًا من أوجه بلاغة القرآن، وجليلاً؛ لأنَّه يستلزم المعرفة بدقائق الاستعمال اللُّغويِّ معجميًّا، وصرفيًّا، ودلاليًّا.
    وهذه الدِّراسة هي محاولة متواضعة لمتابعة ما أشار إليه علماؤنا من ارتباط آيات القرآن، واتِّساق معانيه، وانتظام مبانيه، وتعميق البحث في ذلك؛ لإبراز الخصائص البيانيَّة لأسلوب القرآن الكريم.
    فالبحث في الصِّيغة من خلال سياقها يُعدُّ من أهم القرائن اللَّفظيَّة التي تُعين على فهم الخطاب، فالصِّيغة قادرة على تفسير السِّياق الخطابيِّ وخاصَّة فيما يتعلَّق بنظم القرآن الكريم.
    اختلاف أبنية الألفاظ
    أوَّلا: أبنية الأسماء
    أ – اختلاف أبنية اسم الفاعل:
    تختلف صيغ الوصف المشتق في القرآن الكريم من موطن لآخر؛ تبعًا لسياقها، مثاله: صيغة مشتبه – اسم فاعل – جاءت في قوله تعالى: ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ [الأنعام 99]. بينما جاءت صيغة متشابه – اسم فاعل – في قوله سبحانه: ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ [الأنعام 141]. فما سرُّ تعاقب صيغتي اسم الفاعل في السِّياقين؟ وما سبب التَّخصيص؟.
    لحظ بعض الموجِّهين أنَّ ثمَّة سرًّا بلاغيًّا لطيفًا كاد يبوح به تعاور الصِّيغتين في سياقيهما، وقد تأبَّى ذلك على أهل اللُّغة فذهبوا – عندما أعوزهم تلمُّسُه – إلى أنَّ مشتبهًا، ومتشابهًا لغتان بمعنى واحد، فذهب كثير منهم إلى مجيء تفاعل بمعنى افتعل، يقول سيبويه: "وأمَّا تفاعلت فلا يكون إلا وأنت تريد فعل اثنين فصاعدًا..... وذلك قولك: تضاربنا وترامينا وتقاتلنا. وقد يشركه افتعلنا فتريد بهما معنى واحدًا، وذلك قولهم: تضاربوا واضطربوا، وتقاتلوا، واقتتلوا، وتجاوروا، واجتوروا، وتلاقوا، والتقوا"[4].
    واعتمد الزَّمخشريُّ[5]، والرَّازيُّ[6]، وأبو حيَّان[7] على هذا المعهود اللُّغويِّ حينما رأوا أنَّ: اشتبه الشَّيئان وتشابها، كقولك اختصم وتخاصم، واستوى وتساوى، واشترك وتشارك، وغير ذلك ممَّا يشترك فيه باب الافتعال والتَّفاعُل. والافتعال والتَّفاعُل يشتركان كثيرًا.
    سوى أنَّ ابن الزُّبير الغرناطيّ يعقِّب على مذهبهم هذا – مؤيدًا – ويبيِّن الفرق بين الصِّيغتين، وسرَّ تغاير الاستعمال القرآنيِّ في السِّياقين، يقول: "إنَّ مشتبهًا ومتشابهًا لا فرق بينهما إلا ما يُعدُّ فارقًا؛ إذ الافتعال والتَّفاعُل متقاربان، أصولهما: الشِّين والباء والهاء، من قولك: أشبه هذا هذا إذا قاربه وماثله. ورد في أولى الآيتين على أخفِّ البناءين، وفي الثَّانية على أثقلهما؛ رعيًا للتَّرتيب المتقرِّر، وقد مرَّ نحو هذا في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ﴾ في سورة البقرة 38، وقوله: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ﴾ في سورة طه 123"[8].
    أقول: ما ضرب به المثل من آية البقرة، وآية طه فيه نظر؛ لأنَّ سورة طه مكيَّة، وسورة البقرة مدنيَّة[9]، وإن كان مقصد التَّرتيب عنده البداءة بالأخفِّ ثمَّ الأثقل صياغة فهذا يحتاج إلى دليل مخصِّص لسياق هذا الاستعمال، وهو نفسه مثَّل للأخفِّ والأثقل في تغاير الصِّيغتين اسطاع واستطاع[10] بدلالة السِّياق، لا بالتَّرتيب المذكور.
    ووافق ابن عاشور[11] – أيضًا – ما ذهب إليه ابن الزُّبير وذكر أنَّ الاشتباه والتَّشابه بمعنى واحد وأنَّهما مترادفان، واشتقاقهما من الشَّبه، وجمع بينهما في الآية الأولى؛ للتَّفنُّن كراهية إعادة اللَّفظ بعينه؛ ولأنَّ اسم الفاعل من التَّشابه – متشابه – أسعد بالوقف عليه لما فيه من مدِّ الصَّوت بخلاف متشابه وهذا من بديع الفصاحة.
    وأرى أنَّ الصِّيغتين ليستا بمعنى واحد من حيث الدَّلالة السِّياقيَّة، فهناك فرق دقيق بينهما جاء القرآن الكريم به؛ لتخصيص كلِّ آية بالصِّيغة التي وردت فيها؛ لأنَّ الزِّيادة في المبنى تعطي زيادة في المعنى، كما أنَّ القرآن الكريم لا يستعمل كلمة بصيغة محدَّدة في موطن، ويستعملها بصيغة متماثلة في موطن آخر إلا لسبب يقتضيه سياق النَّص، فكلُّ لفظة اختصَّت بموطنها المناسب.
    فسياق الآية الأولى في بيان قدرة الله عز وجل وآياته الباهرة في خلقه قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ... فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ... وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا ... وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ... وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ...﴾ [الأنعام 95-99].
    وسياق الآية الأخرى ففي بيان الأطعمة وما يحلِّله ويحرِّمه أهل الكفر؛ افتراء على الله، وبيان عقائدهم الباطلة، قال تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ... وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ... وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ...﴾ [الأنعام 136 – 141].
    فالفعل اشتبه أكثر ما يفيد الالتباس والإشكال، وأنَّ تشابه أكثر ما يفيد المشاركة في معنى من المعاني. جاء في تاج العروس: "أمور مشتبهة ومشبَّهة كمعظَّمة، أي: مشكِلة ملتبسة يشبه بعضها بعضًا"[12]، وجاء في المصباح المنير: "فالمشابهة: المشاركة في معنى من المعاني، والاشتباه: الالتباس"[13].
    فـ "الأمور المشتبهة تحتاج إلى زيادة نظر وتأمُّل؛ لإدراك حقيقة أمرها، فوضع مشتبهًا في السِّياق الدَّال على قدرته وآياته، وفي موضع الأمر بالنَّظر انظروا إلى ثمره دون الموضع الآخر ممَّا ليس في هذا السِّياق،فكان كلُّ تعبير أنسب في سياقه الذي ورد فيه"[14].
    ب – بين التَّفضيل واسم الفاعل:
    جاءت صيغة أفعل التَّفضيل في قوله تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ﴾ [هود 22]، وصيغة اسم الفاعل في قوله تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [النحل 109].
    وقد اختلفت نظرة العلماء في بيان وجه المغايرة بين الصِّيغتين في سياقيهما فذهب الخطيب الإسكافيَُّ[15] – معتمدًا على السِّياقين اللُّغويِّ والحاليِّ – إلى أنَّ سياق آية هود تقدَّمها: ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ [هود 20]، فهؤلاء ضُوعف لهم العذاب؛ لأنَّهم كما وصفهم الله بقوله: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [هود 19]، فهم لم يكتفوا بضلالهم، وإنَّما يضلون غيرهم؛ ليكونوا في الضَّلال سواء؛ فاستحقُّوا تضعيف العذاب، ولمَّا كانوا استحقُّوا الوصف بالخسران بصيغة التَّفضيل.
    أمَّا سياق آية النَّحل فلم يُخبر عن الكفَّار أنَّهم مع ضلالهم أضلُّوا من سواهم، وإنَّما جاء وصفهم بقوله سبحانه: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [النَّحل 107]. فهؤلاء لم يُذكر فيهم ما ذكر في آية هود من مضاعفة العذاب، كما أنَّ فواصل الآيات قبلها، مثل: الكافرين، والغافلون ناسب مجيء الخاسرون.
    وقد ذهب الكرمانيُّ إلى ما ذهب إليه الإسكافيُّ، ونقل عنه، وأرجع سبب تخصيص كلِّ صيغة في تراكيبها إلى السِّياق الذي سيقت فيه؛ "لأنَّ هؤلاء صدُّوا عن سبيل الله وصدُّوا غيرهم فهم الأخسرون يُضاعف لهم العذاب، وفي النَّحل صدُّوا فهم الخاسرون"[16]. وإلى هذين التَّحليلين أشار: الأنصاريُّ[17]، والألوسيُّ[18].
    بينما يرى ابن الزُّبير[19] أنَّ آية هود سبقها ما يُفهِم المفاضلة ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ [هود 17]، أي: من كان على بينة من ربه ليس كمن كفر وجحد وكذَّب الرُّسل، ثمَّ جاء قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [هود 18]، فهذه آية مفاضلة – أيضًا – فقد جاء باسم التَّفضيل أظلم، فناسب هذا لفظ الأخسرون بصيغة المفاضلة، ولو ورد الخاسرون لحصل التَّنافُر في النَّظم والتَّبايُن في السِّياق.
    وأمَّا سياق آية النَّحل فلم يقع قبلها تفاضُل وتفاوُت – كما في سياق آية هود – وإنَّما قبلها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النَّحل 104 – 105]، وبعد ذلك: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [النَّحل 107]، و ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [النَّحل 108]، فيلاحظ أنَّ فواصل هذه الآيات جاء بصيغة: اسم الفاعل المجموع جمع السَّلامة، فناسب مجيء الخاسرون ولم يكن هنا ما يستدعي المفاضلة لا من جهة المعنى، ولا من جهة اللَّفظ فتناسبت الآيات في سياقها وفواصلها.
    نلاحظ من تحليلي الإسكافيِّ، وابن الزُّبير أنَّهما اتَّفقا في تفعيل السِّياق اللغُّويِّ القائل بالتَّوفيق بين الفواصل، أمَّا سياق الحال فتأويل ابن الزُّبير يختلف عن الإسكافيِّ، ومن شايعه، فعند ابن الزُّبير أنَّ آية هود جاءت بصيغة التَّفاضُل لما سبقها من التَّفاضُل والتَّفاوُت، ولمَّا لم يكن قبل آية النَّحل مفاضلة جاءت بصيغة اسم الفاعل المجموع جمع مذكَّر سالمًا موافقة لِمَا سبقها من سياقات.
    ووظَّف أبو حيَّان صيغة التَّفضيل في تركيبها فاستلهم قولا لطيفًا، فقال – عند آية هود-: "ولما كان خسران النَّفس أعظم الخسران حكم عليهم بأنَّهم هم الزَّائدون في الخسران على كلِّ خاسر"[20].
    وكذلك كان من اليسير أن نتبيَّن قيمة ما أدركه علماؤنا في بيان الفارق الأساس بين الصِّيغتين في الاستعمال اللُّغويِّ عند تناول ابن عاشور لوجه المغايرة بين الصِّيغتين فذكر أنَّ آية هود جاءت بصيغة المفاضلة؛ لبيان أنَّ خسارتهم الأخرويَّة أعظم من خسارتهم الدُّنيويَّة، حيث قال: " ووقع في سورة هود ﴿هُمُ الأَخْسَرُونَ﴾ ووقع هنا في النَّحل ﴿هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾؛ لأنَّ آية سورة هود تقدَّمها ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ هود 21، فكان المقصود بيان أنَّ خسارتهم في الآخرة أشدُّ من خسارتهم في الدُّنيا"[21].
    ج – بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة
    تغايرت الصِّيغتان – ساحر وسحَّار – في سياقين، الأولى في سياق قوله تعالى: ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ [الأعراف 112]، والثانية في قوله عز وجل: ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ [الشعراء 37].
    وقد أشار الزَّمخشريُّ[22] لسبب تخصيص كلِّ صيغة في تركيبها بأنَّ قوم فرعون عارضوا قوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ [الشعراء 109] بقولهم: ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ فجاءوا بصيغة المبالغة سحار؛ ليطمئنوا نفسه، ويسكِّنوا بعض قلقه.
    واستفاد ابن الجزريّ من إشارة الزَّمخشريِّ من دلالة الصِّيغتين في السِّياق وزاد الأمر توصيفًا فذكر أنَّ القرَّاء: " اتَّفقوا على حرف الشُّعراء أنَّه ﴿سَحَّارٍ﴾؛ لأنَّه جواب لقول فرعون[23] فيما استشارهم فيه من أمر موسى بعد قوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ فأجابوه بما هو أبلغ من قوله؛ رعاية لمراده بخلاف التي في الأعراف فإنَّ ذلك جواب قولهم[24] فتناسب اللَّفظان"[25].
    وعلَّل ابن جُمَّاعة[26] مجيء صيغة المبالغة ﴿سَحَّارٍ﴾ في آية الشُّعراء؛ بتقدُّم ﴿بِسِحْرِهِ﴾ في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ [الشُّعراء 35]، وأمَّا في الأعراف فلم يأت لفظ ﴿بِسِحْرِهِ﴾ في قوله سبحانه: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ الأعراف 110، فناسب مجيء ساحر.
    ونقل الألوسيُّ[27] توصيفات في التَّفريق بين سحار و ساحر فسحَّار بصيغة المبالغة يكون لمن يريد السِّحر، وساحر، وساحر بصيغة اسم الفاعل يكون لمن سحر في وقت دون وقت، وقيل: إنَّ السَّاحر للمبتدئ في صناعة السِّحر، والسَّحَّار هو: المتمرِّس في السِّحر والمنتهى الذي يُتعلَّم منه ذلك.
    وهذا التَّفريق الذي نقله الألوسيُّ، هو تفريق في العموم بين السَّاحر والسَّحَّار، وليس مختصًّا في سياق آيتي الأعراف والشُّعراء.
    وجعل ابن عاشور[28] السَّحَّار مرادفًا للسَّاحر في الاستعمال اللُّغويِّ، وأنَّ صيغة فعَّال في قوله: سحَّار جاءت هنا للنَّسب دلالة على الصِّناعة، وذلك مثل: النَّجَّار، والقصَّار، وممَّا يدلُّ على ذلك مجيء عليم بالسِّحر الفائق في علمه.
    وقد استلزم من تحليل ابن عاشور أنَّ بناء فعَّال قد يأتي غير مراد به الكثرة أو المبالغة، قال العكبريُّ – عند قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيـدِ﴾ [آل عمران 182]-: "وظلام: فعَّال من الظُّلم، فإن قيل: بناء فعَّال للتَّكثير، ولا يلزم من نفي الظُّلم الكثير نفي الظُّلم القليل، فلو قال: بظالم لكان أُوِّل على نفي الظُّلم قليله وكثيره. فالجواب من ثلاثة أوجه: أنَّ فعَّالا جاء لا يُراد به الكثرة، كقول طرفة[29]:
    وَلَستُ بِحَلال التِّلاعِِ مَخَافَةً \ وَلَكِن مَتَى يَستَرفِدِ القَومُ أَرفِدِ
    ولا يريد هاهنا أنَّه قد يحلُّ التَّلال قليلا؛ لأنَّ ذلك يدفعه قوله: "مَتَى يَستَرفِدِ القَومُ أَرفِدِ" وهذا يدلُّ على نفي البُخل في كلِّ حال؛ لأنَّه تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة"[30].
    وحاصل دلالة التَّغاير بين الصِّيغتين في كُلٍّ: أنَّ الفاعل من السِّحر: ساحر لسياق قوله تعالى: ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ [الأعراف 120]، و﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾ [الشًّعراء 40]، كما أنَّ السِّحرة جمع ساحر، ككتبة وكاتب، وفجرة وفاجر، أمَّا سحَّار فقد وُصِفَ بلفظ: عليم ووصفه يدلُّ على تناهيه فيه، وحذقه به؛ فناسب لذلك أن يُذكروا بالاسم الدّال على المبالغة في السِّحر[31].
    د – تبايُن صيغ الجموع
    هاتان الصَّيغتان خطايا و خطيئاتكم من الصِّيغ الدَّالَّة على الكثرة أو القلَّة، حيث وردت الصَّيغة الأولى في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ [البقرة 58]، وجاءت الصِّيغة الثَّانية في قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ﴾ [الأعراف 161].
    وقد أخذ الموجِّهون يُعلِّلون لتلك الظَّاهرة – تعاقب الصِّيغتين – وهم على ذُكر من هذه التَّفرقة المعنويَّة، بل التمسوا لإيثار صيغة على أخرى نكات بلاغيَّة كانت هي الدَّاعي إلى الالتفات لموضع كلِّ صيغة في سياقها.
    إذ ربط الخطيب الإسكافيُّ[32] بين موضع البقرة مكسَّرًا، وموضع الأعراف سالمًا، فخصَّ الصِّيغة الأولى بالتَّكسير؛ لأنَّ الله سبحانه أخبر في هذه الآية عن نفسه بقوله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا﴾ فلمَّا أسند الفعل إلى نفسه سبحانه ناسب أن يذكر الخطايا التي تدلُّ على الكثرة؛ إشارة إلى أنَّ الله بجوده وكرمه يغفر الخطايا الكثيرة، ولمَّا لم يُسند الفعل إلى نفسه في آية الأعراف، ولم يُسم الفاعل فقال: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ﴾ أتى بلفظ خطيئات التي هي جمع مؤنث سالم للقلَّة فجاء كُلٌّ على ما يناسب، وتابعه على ذلك: الكرمانيُّ [33]، والرَّازيُّ[34]، والنَّيسابوريُّ[35]، والسِّيوطيُّ[36].
    ولم يرتض الألوسيُّ[37] اعتماد الإسكافيِّ على السِّياق اللُّغويِّ في بيان وجه الجمع بين التَّكسير، والسَّالم المتمثِّل في إذ قلنا و إذ قيل حيث ذكر بأنَّه وإن ورد في الأعراف وإذ قيل لكنَّه جاء في السُّورتين نغفر لكم بإضافة الغفران إلى نفسه سبحانه، ولا شك أنَّ رعاية سياق نغفر لكم أولى من رعاية وإذ قيل لهم؛ لتعلُّق الغفران بالخطايا؛ فعلى هذا التَّوجيه كان ينبغي أن يذكر جمع الكثرة الخطايا كذلك في الأعراف. وكأنِّي بالألوسي يشير إلى أنَّ السِّياق وحده هو الحكم في التَّفريق بين مدلولي القلَّة والكثرة بعيدًا عن مجاراة اللُّغوييِّن لتقسيم الجموع إلى كثرة وقلَّة، إلا أنَّه عاد بعد تحليله للصِّيغتين وذكر أنَّ هذه المغايرة ما هي إلا من باب التَّفنُّن في التَّعبير حيث قال: "وبالجملة التَّفنُّن في التَّعبير لم يزل دأب البلغاء وفيه من الدَّلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى، والقرآن الكريم مملوء من ذلك"[38].
    واتَّجه ابن الزُّبير اتِّجاهًا آخر جمع فيه بين مدلولي الكثرة والقلَّة في البقرة والأعراف، وسياق السُّورتين حيث: "ورد جمعها في البقرة مُكسَّرًا؛ ليناسب ما بنيت عليه آيات البقرة من تعداد النِّعم والآلاء...؛ لأنَّ جموع التَّكسير ما عدا الأربعة أبنية: أفعُل، وأفعال، وأفعلة، وفِعلَة، إنَّما ترد في الغالب للكثرة فطابق الوارد في البقرة ما قُصد من تكثير الآلاء والنِّعم، وأمَّا الجمع بالألف والتَّاء فبابه القلَّة، وما لم يقترن به ما يبيِّن أنَّ المراد به الكثرة، فناسب ما ورد في الأعراف من حيث لم تُبنَ آيُها من قصد تعداد النِّعم على ما يناسب والله أعلم"[39].
    وعبارة ابن الزُّبير: " وأمَّا الجمع بالألف والتَّاء فبابه القلَّة، ما لم يقترن به ما يبيِّن أنَّ المراد الكثرة " عبارة على بساطتها ووجازتها خطيرة الأبعاد في دلالتها النَّافذة على دور السِّياق في التَّفريق بين مدلولي القلَّة والكثرة، فالعرب قد يجمعون بالألف والتَّاء، وهم يريدون الكثرة، وهذا ما ذكره سيبويه[40]، والنَّحَّاس[41]، ونقله ابن جِنِّي[42]، ودلَّل عليه، وأخذ به الزَّمخشريُّ[43]، وابن عطيَّة[44].
    فإذا سلَّمنا بأنَّ ثَمَّ جموعًا للكثرة، وأخرى للقلَّة مجاراة للُّغوييِّن فهم أنفسهم يُقرِّرون حينما اصطدموا بالنُّصوص أنَّ: "جموع القلَّة إذا تَعَرفت بالألف واللام غير العهدية أو أضيفت،" عمَّت وصارت لا تخصُّ القليل والعام المستغرق لجميع الأفراد"[45].
    فالسِّياق هو المحدِّد الأساس لدور الكلمة في الاستعمال اللُّغويِّ لا بالقوالب الجامدة التي تبتعد عن روح النَّص.
    وبالجملة فإنَّ الفائدة من اختلاف الصِّيغتين بين السُّورتين مع كون القصة واحدة هي: "الإشارة إلى أنّ هذه الذُّنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي مغفورة بعد الإتيان بالمأمور به"[46]، أو "إذا حصل منهم الدُّعاء والتَّضرُّع"[47].
    وتتعاقب – كذلك – الصَّيغتان النبييِّن، و الأنبياء في سياقيهما، حيث وردت الصِّيغة الأولى جمعًا سالمًا، في قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [البقرة 61] ووردت صيغة الجمع المكسَّر في قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران 112].
    لحظ الكرمانيُّ[48] أنَّ النَّسق القرآنيَّ في آية البقرة ورد جمع السَّلامة لموافقة ما بعده، حيث جُمِعَ جَمعَ سلامة، في نحو: الذين !!، و الصَّابئين، في سياق قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ﴾ [البقرة 62].
    أمَّا آية آل عمران التي وردت بالجمع المكسَّر فهي بخلاف ذلك وقد نقل الفيروز آبادي[49] هذا التَّوجيه، غير أنِّي أرى في توجيه الكرمانيِّ بُعدٌ؛ لأنَّ آية البقرة ورد فيها جمع التَّكسير: النَّصارى فكُسِر النَّسق الذي استدلَّ به الكرمانيُّ، كما أنَّ لفظ الذين ليس جمع مذكَّر سالمًا.
    وابتعد ابن الزُّبير الغرناطيُّ[50] عن المعهود اللُّغويِّ في دلالة الجمعين فلم يوجِّه الصِّيغتين في سياقهما،على ما يفيده الجمع السَّالم من القلَّة وجمع التَّكسير من الكثرة، وإنَّما وجَّههما توجيهًا آخر فذكر أنَّ سبب التَّخصيص هو أنَّ جمع التَّكسير يكون لأولي العلم وغيرهم، وأمَّا جمع المذكَّر السَّالم فالأصل أن يختصَّ بأولي العلم، وقد يأتي لغيرهم على سبيل الإلحاق والتَّشبيه، كقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف 4]، فإذا تقرَّر هذا فإنَّ ورود جمع المذكَّر السَّالم في آية البقرة مناسب لأمرين:
    الأوَّل: شرف الجمع لشرف المجموع، أي: أنَّ جمع المذكَّر أشرف لجمع نبي من جمع التَّكسير.
    الثّاني: أنَّ زيادة المدِّ في نبيين مناسبة لزيادة أداة التَّعريف في لفظ الحق.
    وأما آية آل عمران فلم يكن فيها إلاَّ شرف المجموع وكانت العرب تتَّسع في جمع التَّكسير فتوقعها على العقلاء أولي العلم وغيرهم، فجيء بجمع التَّكسير لتحصل اللُّغتان، فلا يبقى حجَّة لمن تُحدِّي بالقرآن؛ لأنَّهم مُخاطبون بما في لغاتهم فجيء بالجمعين كليهما؛ لبيان جوازهما.
    أقول: إنَّ في تحليل ابن الزَّبير نظر؛ وذلك لأنَّ شرف الجمع لشرف المجموع يتحقق في الجمعين كليهما وقد قرَّر هو نفسه هذا الكلام. أمَّا زيادة المدِّ لزيادة التَّعريف في لفظ الحق في آية البقرة، فإنَّه يتحقق هنا، ويتحقَّق كذلك في آية آل عمران التي فيها الأنبياء، الأولى بهذا التَّجانس الصَّوتي: لفظ الأنبياء فإنَّه مدُّ لازم يُمَّد أربع أو خمس حركات.
    ويتجه أبو حيَّان اتجاهًا آخر حيث يرى أنَّه لا فرق في الدَّلالة بين النبيين والأنبياء "لأنَّ الجمعين إذا دخلت عليهما أل تساويا، بخلاف حالهما إذا كانا نكرتين؛ لأنَّ جمع السَّلامة إذ ذاك ظاهر في القلَّة، وجمع التْكسير على أفعلاء ظاهر في الكثرة"[51].
    وقد قرَّر أبو حيَّان في موطن آخر هذه الرؤية، وهي أنَّ "جموع القلَّة إذا تعرَّفتْ بالألف واللاَّم غير العهدية أو أضيفتْ، عمَّت وصارتْ لا تخصُّ القليل، والعام مستغرق لجميع الأفراد"[52].
    ويؤيد ذلك ما ورد في سياق القرآن من جمعي السَّلامة مرادًا بها الكثرة، بل أكثر من ذلك استعمال الذِّكر الحكيم لصيغة جمع الكثرة في قوله سبحانه: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ﴾ [البقرة 228] في موضع القلَّة، وصيغة جمع القلَّة بأنفسهن في موضع الكثرة[53].
    وينساق ابن جني - سابقًا أبا حيَّان- في التَّأكيد على أنَّ جمع السَّلامة قد يفيدان الكثرة بدلالة السِّياق حيث ورد قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ [الأحزاب 35] والغرض في جميعه الكثرة لا ما هو بين الثَّلاثة إلى العشرة"[54].
    وهكذا تخرج الصِّيغة الدِّالة على القلِّة عن أصل وضعها إلى الدَّلالة على الكثرة في سياقها.
    ثانيًا: أبنية الأفعال
    أ‌- أبنية الفعل بين التَّجريد والزيادة:
    تختلف صيغة الفعلين اسطاع واستطع بوحدة صرفيّة لها أثر فاعل في القيمة الدَّلالية لسياق قول الله عزَّ وجل: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف 97] فبينما يشير بعض المفسرين واللُّغويين كأمثال: ابن جرير[55]، والزَّجاج[56]، والفارسيّ[57]، وابن جني[58]، وأبو حيَّان[59]، إلى أنَّ الفعل اسطاع أصله: استطاع وحُذفتْ منه التاء؛ تخفيفًا، وهي علَّة يشيع دورانها في مثل هذا اللَّون من الحذف.
    نرى آخرين منهم[60] يستغلُّون هذا اللَّون وتلك العلَّة في الكشف عن سرِّ المغايرة في مبنى الفعلين في سياق واحد. فهذا ابن الزُّبير الغرناطيُّ يعتمد على هذه العلَّة، فيربط بينها وبين غرض الآية الَّذي يصوِّر علوَّ السَّدِّ وملاسته وصلابته وموقف يأجوج ومأجوج منه "فجيء أولاً بالفعل مُخفًّفًا عند إرادة نفي قدرتهم على الظُّهور على السَّد والصُّعود فوقه، ثمَّ جيء بأصل الفعل مُستوفى الحروف عند نفي قدرتهم على نقْبه وخرْقه، ولا شكَّ أنَّ الظُّهور أيسر من النَّقب، والنَّقب أشد عليهم وأثقل، فجيء بالفعل مخفَّفًا مع الأخفِّ، وجيء به تامًا مستوفى مع الأثقل، فتناسب، ولو قُدِّر بالعكس لما تناسب"[61].
    وبهذه القيمة التَّعبيريَّة التي ارتداها ابن الزُّبير نستطيع أن نستصحبها لبيان مراعاة النَّسق القرآنيِّ للمغايرة بين الفعلين تستطع وتسطع [الكهف 78، 82] من السُّورة نفسها بغرض إحداث نوعٍ من المناسبة الدَّلاليَّة بين المبنيين في سياقهما؛ إذ ورد الفعل في الآية غير محذوف التَّاء؛ لتصوير شدَّة الثِّقل الَّذي شعر به موسى - عليه السلام - حينما غُمَّ عليه لما كان يقوم به العبد الصَّالح من أفعال لا تتفق في ظاهر الأمر مع ما يعتاده النَّاس في الحياة، حتّى بلغت بهما المفارقة العلميَّة مبلغها، ثُمَّ ورد الفعل في الآية الأخرى مخفَّفًا بحذف التَّاء؛ للتَّنبيه على زوال ذلك الثِّقل عن كاهله، حيث خفَّ عليه ما لَقِيَه بظهور سببه، وبيان ذاته وكنهه، فكانت المناسبة بين كل بناء من البنائين مع ما يصوِّره من معنى، وما يكتنفه من قيم جماليَّة وتعبيريَّة[62].
    كما تشير صيغتا تبع واتبع إلى قيمة تعبيريَّة يشير إليها، الملحظُ الدَّلاليُّ المستفاد من اختلاف الوحدة الصَّرفيَّة في الفعلين؛ تبعًا لسياقهما، حيث وردت الصِّيغتان في سياق آية [البقرة 38] ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وفي سياق آية [طه 123] ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾.
    جاءت آية البقرة بلفظ تَبِعَ على وزن فَعِلَ، وجاءت آية طه بلفظ اتَّبع على وزن افْتَعَل، وقد يكونان بمعنى واحد، وهو ما تردَّد في قول سيبويه: "وقالوا: قرأت واقترأت يريدون شيئًا واحدًا.... وكذلك قلع واقتلع، وجذب واجتذب بمعنى واحد"[63].
    وكان هذا التَّعليل اللُّغويُّ خليقًا بأن يجد لنفسه أثرًا في توجيه هاتين الصِّيغتين في سياقهما، فاستقى الرَّاغب الأصفهانيَّ وجهته الدَّلاليَّة من كلام سيبويه؛ إذ "تبعه واتبعه قَفَا أثره... بالارتسام والائتمار"[64].
    ويكرر ابن منظور هذا الملحظ الدَّلاليَّ لوجه المناسبة بين المبنيين، وينقل عن أبي عُبيد، واللَّيث بن سعد الرَّأي نفسه في دلالة الصِّيغتين، يقول: "قال أبو عبيد: أَتْبَعْت القوم مثل أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم، قال: واتَّبعْتُهم مثل: افتعلت إذا مرُّوا بك فمضيتُ وتَبعْتُهم تبعًا مثله.... وقال اللَّيث: تَبِعْتُ فلانًا واتَّبعْته وأتَبعْته سواء"[65].
    ويستغلُّ الكرمانيّ[66]. السِّياق اللُّغويَّ؛ لتأكيد هذا المعهود اللُّغويِّ لمبنى الصِّيغتين، فيرى أنَّ ما جِيءَ في طه بلفظ اتَّبع لموافقة قوله تعالى قبل ذلك: ﴿يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾ [طه 108].
    ويناصر الأنصاريُّّ[67] الكرمانيَّ فيما ذهب إليه، وزاد أنَّ آية البقرة على الأصل، وأنَّ السِّياق في آية طه لما بُني على التَّأكيد بقوله عزَّ وجل: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ﴾ [طه 115] ناسب أن تَختصَّ بالزِّيادة التي تفيد التَّأكيد.
    وقد لحظ ابن الزُّبير الغرناطيّ[68] أنَّ لكل واحد من الصِّيغتين تمايزًا عن الآخر؛ لأنَّ صيغة تبع ثلاثي هو الأصل، وصيغة اتبع مزيد هو الفرع، وما فيه من زيادة في المبنى يستلزم زيادة في المعنى، فإذا اشتركت الصِّيغتان في دلالتهما على الاتباع، فإنَّ تبع تدلّ على الاتِّباع الَّذي لا تكلُّفَ فيه ولا مشقة، وأمَّا اتبع فإنَّ هذه البنية افتعل تنبيء عن تكلُّف ومشقة، وتحميل للنَّفس طاقة أخرى.
    ويستدلُّ ابن الزُّبير على هذا الفرق بقوله: "ألا ترى قول الخليل -عليه السلام - في إخبار الله تعالى عنه ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [إبراهيم 36] حيث أشار بقوله: فإنه مني إلى الخاصَّة من سالكي سبيله... فعبَّر بما يشير إلى غاية التَّمسك والقرب حين قال: مِنِّي فناسب ذلك قوله: تبعني، يريد: الجري على مقتضى الفطرة، وميَّز الحق بديهًا بسابقة التَّوفيق من غير إطالة نظر أو كبير علاج لسَبقية الهدى ووضوح الشَّواهد. وفي طرف من حال هؤلاء مَنْ قيل فيه: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص 50]، وهذه الآية وأمثالها مراد بها من تعامى عن النظر في الدَّلالات، وترك واضح الاعتبار وحمَّل نفسه - بقدر الله - على ما لا يشهد له نظر ولا يقوم عليه البرهان، فكأنَّ هؤلاء.... عالجوا أنفسهم حتى انقادت طباعهم إلى غير ما تشهد به الفطرة"[69].
    ويواصل ابن الزُّبير تأكيد ذلك بعرض مزيد من الشَّواهد تؤكِّد صحة ما ذهب إليه، فيقول: "وكذلك قيل لمن وُسِمَ بالإسراف من عصاة الموحدين، فقيل لهم ﴿اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم﴾ [الزمر 55]، وذلك لإلفتهم المخالفات، وانقياد نفوسهم لها احتاجوا في الإقلاع عن ذلك والأخذ في خلاف حالهم إلى التَّعمل والعلاج.
    وكذا قيل لمن ألف الطَّاعات وارتاض لالتزامها ﴿لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [النور 21]؛ لإلفة نفوسهم الطَّاعات حتَّى إنَّهم إن وقعتْ منهم مخالفة فبتعمُّل وعلاج؛ لأنها خلاف المألوف"[70].
    ويعتمد ابن الزُّبير سياق الحال الوارد في سياق القصَّة محل السُّورتين؛ لأنَّ سورة البقرة لم يُذكر فيها من كيد إبليس كما ذكر في سورة طه فلم يرد في البقرة من كيد إبليس إلاَّ قوله تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ [البقرة 36] من غير تفصيل وبيان لهذا الإضلال والإغواء، فكانت المناسبة الدَّلالية لمبنى تبع التي تعني مجرد الاتباع من غير تعمل، ولا تكلَّفَ، ولا مشقَّة.
    وأمَّا في سورة طه فكان التَّفصيل، حيث ذكر كيفية الإغواء في قول الله عزَّ وجلَّ ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى﴾ [طه 120]، وذكر فيها قوة كيد اللَّعين واستحكام قبضته وحيلته حتى احتنك كثيرًا من البشر وأخلهم عن المستقيم؛ ومن ثم أصبح تمييز الحق لا يكون إلاَّ بتعمُّل ومشقَّة؛ لذا ناسب اتبع وجاء كلّ على ما يناسب معنى ونظمًا وإيجازًا، وإطالة مراعاة لسياق الحال في الآيات محل القصَّة القرآنية[71].
    ويتابع البقاعيُّ[72] ابن الزُّبير في توضيح الفرق بين الصِّيغتين وسرّ تغاير الاستعمال القرآنيّ لهما حيث احتكم لسياق الحال؛ لبيان الفرق مسترشدًا بالسِّياق اللُّغويِّ فيكون الاختلاف في عرض القصَّة هو السَّبب في المغايرة بين الصِّيغتين، فلمَّا عُرضتْ القصَّة في سورة البقرة لم يرد فيها حكاية إغواء الشَّيطان لآدم وزوجه إلاَّ بصيغة مجملة، فجاء الفعل تبع.
    وأمّا في سورة طه فقد ورد في القصَّة كيفية الإغواء، فلمَّا زاد ذلك قابله زيادة في صيغة الفعل.
    لكن ابن جُمَّاعة يضيف إلى هذه التَّحليلات السَّابقة وجهًا آخر تحتمله صيغة افتعل؛ إذ يمكن في نظره أن تفيد تجديد الفعل، وقد علَّل لذلك بالرَّبط بين سياق فعل آدم - عليه السلام - ومعصيته، ففي سياق سورة طه جاء الفعل اتبع بعد قوله ولم نجد له عزما، وبقوله وعصى آدم ربه فغوى "فناسب فمن اتبع، أي: جدَّد قصد الاتباع"[73].
    ويحتفي الدُّكتور السَّامرائي بسياق الحال؛ لإظهار الفرق بين صيغتي الفعل كلتيهما في مقامهما فقصة آدم - عليه السلام - في البقرة مبنية على تكريمه وتشريفه حيث ذكر فيها استخلاف آدم - عليه السلام - في الأرض، وتفضيله على الملائكة بتعليمه الأسماء كُلِّها، وجهل الملائكة بها، وكذلك تكريمه بإسجاد الملائكة له، فاكتفى في البقرة بالصِّيغة الأخفِّ مبنى تبع، ولم يُشدِّد على بني آدم؛ تخفيفًا عليهم؛ مراعاة لمقام التَّكريم والتَّشريف. وأمَّا في سياق آية طه جاء اتَّبع بالتَّشديد؛ لإفادة المبالغة.
    ولم يكتف الدُّكتور السَّامرائي برؤيته هذه، بل ربط بين سياق الحال والسِّياق اللُّغويِّ، حيث جاء في أول البقرة قوله قلنا اهبطوا فالفعل قلنا أُسند إلى الله تعالى فناسبه: التَّخفيف الذي يفيد تلطُّف المولى سبحانه بعباده فجيء بالفعل تبع، كما أنَّ الفعل تبع تردَّد في سورة البقرة أكثر من أيِّ سورة أخرى فكان ذلك مناسبًا لمجيئه هنا[74].
    وتتغاير كذلك صيغتا كسب واكتسب في سياقهما؛ للدَّلالة على التَّنّوع الأسلوبيِّ الذي يُعدُّ نوعًا من أنواع الترابط النَّصي فقد كثر استعمال هاتين الصِّيغتين في سياقات مختلفة من كلام ربنِّا سبحانه فوقف اللُّغويون، والمفسِّرون فِرقًا في تعليل ذلك التَّنوع وتلك المغايرة في مبنى الفعلين.
    فاتَّجه خلق منهم - كأمثال ابن الجوزيِّ[75]، وأبي حيَّان[76]، وابن عاشور[77] - إلى أنَّ كسب واكتسب بمعنى واحد، فهما لغتان، ومعناهما واحد في كلام العرب، وإنَّما صار هذا التَّنوع في الاستعمال؛ تفنُّنًا وتحسينًا للكلام، وكراهية لإعادة الكلمة بعينها، وهي علَّة - كما ذكرنا قبلاً- يكثر دورانها في مثل هذا اللَّون من الحذف في الأبنية.
    واستدلوا بسياق قوله تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَـافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق 17] حيث أفاد الكرمانيُّ أنَّه عَدَل في الصِّيغة إلى أمهل؛ لأنَّه من أصل مهَّل وبمعناه؛ كراهة التَّكرار[78].
    وبقول ذي الرُّمَّة[79]:
    ومُطْعَمُ الصَّيدِ هبَّالٌ لِبُغْيَتِهِ \ أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الكَسْبِ يَكْتَسِبُ
    وقول النَّابغة[80]:
    إِنَّا اقْتَسَمْنَا خُطَّتَيْنَا بَيْنَنَا \ فَحَمَلْتُ بَرَّةَ وَاحْتَمَلْتَ فَجَارِ
    كما أنَّ السِّياق القرآنيَّ للصِّيغتين جاء بالتَّسوية بين الكسب والاكتساب، يقول أبو حيَّان: "... وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في مورد واحد. قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر 38]، وقال تعالى: ﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا﴾ [الأنعام 164]، وقال تعالى: ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة 81]، وقال تعالى: ﴿بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ [الأحزاب 58] فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشَّرِّ"[81].
    ويلحظ آخرون أنَّ ثمة سرًّا بلاغيًا لطيفًا كاد يبوح به تركيب المبنيين فهناك تمايز بين الكسب والاكتساب، وهو ما استلهمه الزَّمخشري الذي يرى أنَّ الاكتساب: اعتمال، فلمَّا كانت السَّيئات مِمَّا تشتهيه النَّفس وتَنجذب إليه وتأمر به كانت في تحصيله أجدّ، لذا جُعلت مكتسبة له، ولمَّا لم تكن النَّفس كذلك في الخير والحسنات وصفت بما لا دلالة فيه على المشقة والتَّعب، يقول: "فإن قلت: لِمَ خَصَّ الخير بالكسب والشَّدَّ بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمال، ولمَّا كان الشَّرُّ ممَّا تشتهيه النَّفس، وهي منجذبة إليه، وأمّارة به كانت في تحصيله أعمل وآجد فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولمّا لم تكن كذلك في باب الخير وُصِفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال"[82].
    ويعتمد ابن عطيَّة في توضيح وجه المغايرة بين الصِّيغتين على الأمرين، الأول: في نمط الكلام وحسن تصريفه وإيقاعه في التَّركيب، وهو سرُّ المخالفة بين المبنيين والثَّاني: في دلالة المبنيين على الخير والشَّرِّ. يقول: "وكُرِّر فعل الكسب فخالف بين التِّصريف حُسْنًا لنمط الكلام، كما قال تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَـافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق 17] هذا وجهٌ، والذي يظهر لي في هذا أنَّ الحسنات هي ممَّا يُكسب دون تكلُّف؛ إذ كاسبها على جادَّة أَمر الله ورسم شرع، والسَّيئات تُكتَسَبُ ببناء المبالغة؛ إذ كاسبها يتكلَّف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتجاوز إليها فَحَسُن في الآية مجيء التَّصريفين؛ إحرازًا لهذا المعنى"[83]. واستظهر هذا التَّفريق الدَّلالي وقيمه البلاغيَّة: السَّمين[84]، وابن جُزيّ[85]، والألوسيّ[86].
    ولم يكن مستغربًا لدينا أن يسلك اللُّغويون والمفسِّرون هذا المسلك لبيان سرِّ التَّلوين بين المبنيين؛ إذ كان هذا التَّحليل موافقًا لسلفهم من أئمَّة اللُّغة، فهذا سيبويه يقول: "وأمَّا كسب فإنَّه يقول: أصاب، وأمَّا اكتسب فهو التَّصُّرف والطَّلب، والاجتهاد بمنزلة الاضطراب"[87].
    وكذا كان صنيع ابن جنيِّ؛ لأنَّ "معنى كسب دون معنى اكتسب لما فيه من الزِّيادة"[88].
    ويجاري الرَّضي رأيَّ سيبويه، وصنيع ابن جنِّي "فمعنى كسب: أصاب، ومعنى اكتسب: اجتهد في تحصيل الإصابة بأن زَاوَل أسبابها"[89].
    وبالجملة فإنَّ سياق الكلام هو الَّذي يُعيِّن المتلقِّي على فهم سرِّ المغايرة بين الأبنية المتماثلة بحسب ما يُمليه منطق التَّعبير، وأحسب أنَّ هذه المغايرة دليل على القيمة التعبيريَّة الكبرى التي أملاها التَّركيب على الصيغتين، وهي تكثيف دلالة التَّركيب بتعدُّدها واختلافها من مُتلقٍ إلى آخر بحسب نظره إلى السِّياق.
    ب- بناء الفعل للمعلوم والمجهول:
    يوافقنا في ذلك اختلاف الصِّيغتين قلنا وقيل في الخطاب القرآنيِّ، حيث وردت الصِّيغة الأولى في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ [البقرة 58] بذكر الفاعل، والثَّانية بطرح الفاعل في قوله عزَّ وجل: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ [الأعراف 161].
    هذا التَّلوين في الخطاب القرآنيِّ بين الصِّيغتين أرجعه الرَّازيُّ[90] في السِّياق الأوَّل قلنا لعلَّتين: إزالة الإبهام، وللسِّياق اللُّغويِّ السَّابق في التَّركيب، وهو تقدم ذكر النَّعم ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة 40، 47] فناسب التَّصريح بالفاعل وإذا قلنا بنسبة القول إلى الله عزَّ وجل.
    أمَّا آية الأعراف فقد زال الإبهام الحاصل بعد تقدُّم التَّصريح بالفاعل في آية البقرة، فكان المناسب بناء الفعل لما لم يُسمَّ فاعله، وتابعه على ذلك النَّيسابوريُّ[91]، وأبو حيَّان[92].
    ويميل ابن جُمَّاعة[93] لتحليل الرَّازيِّ، إلاَّ أنَّه أضاف: أنَّ آية الأعراف جيء فيها بصيغة الفعل لما لم يُسمَّ فاعله؛ لِمَا تقدّم من تعريفهم وتوبيخهم في قوله تعالى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف 138] ثم توبيخهم على فعلتهم في اتخاذهم العجل.
    وعلى هَدْي ممَّا سبق يأتي البقاعي؛ ليشيرإلى أنَّه عُبِّر بما لم يُسمَّ فاعله؛ "إعراضًا عن تلذيذهم بالخطاب؛ وإيذانًا بأنَّ هذا السِّياق للغضب عليهم بتساقطهم في الكفر وإعراضهم عن الشُّكر"[94].
    ويستغلُّ الألوسي هذه المغايرة بين مبنى الفعلين؛ لينبِّه على أنَّ هذا الاختلاف جاء للتفنُّن في التَّعبير؛ لأنَّ هذا التَّفنُّن في الخطاب طريق البلغاء، وفيه دلالة على رفعة شأن المتكلم[95]. كما أفاد عند آية الأعراف أنَّ الفعل ورد بالبناء للمفعول فيها؛ جريًا على سنن الكبرياء؛ وإيذانًا بأنَّ الفاعل غنيٌّ عن التَّصريح به[96].
    أقول: إنَّ صيغة قِيلَ ألقتْ بظلال كثيفة من المعاني في سياقها حيث طُرح الفاعلُ معها، ولا شك أنَّ فاعل القول هو الله عز وجل كما صرَّحتْ به الصَّيغة الأولى عندئذ يصير حذفه لازمة أسلوبيَّة في التَّعبير، ويقوم سياق العلم به - سبحانه- مقام ذكره.
    وقد تناول اللُّغويُّون والمفسِّرون تلك الظاهرة - كما رأينا- وألمحوا في بحثها بلمحات جيدة في بابها من حيث ربطها بالسِّياق القرآنيِّ، إلاَّ إنَّهم لم يلتفتوا إلى أنَّ ما وراء اطِّراد ظاهرة البناء للمفعول قِيلَ غرضٌ بلاغيٌ عامٌ يضبط حركة التَّعبير بها - وإن كان الرَّازيُّ والبقاعيُّ قريبين من ذلك - وذلك حيثما يكون الاهتمام منصرفًا إلى الإعلام بوقوع الفعل، أو الاكتفاء على الحدث ألبتة دونما الاهتمام بفاعله.
    وإذا نظرنا إلى الصِّيغة قِيلَ محل التَّحليل لوجدنا أنَّ مقصود الآية هو: التَّنبيه على فعلتهم الشَّنيعة التي خالفوا فيها أمر الله بدخول مصر ساجدين، ووقوعهم في الكفر، وإعراضهم عن شكر الله تعالى، واتِّخاذهم العجل إلهًا من دون الله سبحانه، فوبَّخهم الله عزَّ وجل، ووصفهم بالجهل إنكم قوم تجهلون. وليس المقصود: الاهتمام بالفاعل والتَّصريح به؛ لأنَّ الغاية هي البنية الإخباريَّة لا البنية اللِّفظية في مقامها الأوَّل.
    وحذف الفاعل للاهتمام بوقوع الحدث ملحظ دلاليٌّ ترددَّ كثيرًا في ظاهرة البناء للمفعول، وقد فطن إلى ذلك ابن جنِّي في معرض توجيهه لبناء الفعل للمفعول[97] في قوله عز وجل: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾ [البقرة 31]، حيث قال: "... فإذا ثبت بهذا كلّه قوة عنايتهم بالفضلة حتى ألغوا حديث الفاعل معها وبنوا الفعل لمفعوله فقالوا: ضُرِبَ زيدٌ- حسُن قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾ لما كان الغرض منه أنَّه قد عرفها وعلمها، وأنس - أيضًا - علم المخاطبين بأنَّ الله تعالى هو الذي علّمه إيّاها بقراءة من قرأ ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾، ونحوه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج 19]، وقوله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء 28].... فقد علم أنَّ الغرض بذلك في جميعه أنَّ الإنسان مخلوق ومضعوف، وكذلك قولهم: ضُرِبَ زيدٌ، إنما الغرض منه أن يُعلم أنَّه منضرب وليس الغرض أن يعلم مَنْ الذي ضربه، فإن أريد ذلك، ولم يدل دليل عليه فلابد أن يذكر الفاعل فيُقال: ضَرَبَ فلانٌ زيدًا، فإن لم يفعل ذلك كَلَّفَ عِلْمَ الغيب[98].
    ويكرر ابن جنِّي هذا الملحظ البلاغيّ، ويؤكد عليه - بقوله - في موضع آخر: "إنَّ الفعل إذا بُنيَ للمفعول، لم يلزم أن يكون ذلك للجهل بالفاعل، بل ليُعْلم أنَّ الفعل قد وقع به، فيكون المعنى هذا لا ذكر الفاعل، ألا ترى إلى قول الله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء 28]، وقوله تعالى: ﴿خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [الأنبياء 37]، وهذا مع قوله عزّ وجل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق 16]، وقال سبحانه: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ [العلق 2] فالغرض في نحو هذا المعروف: الفاعل إذا بُنيَ للمفعول إنَّما هو الإخبار عن وقوع الفعل به حَسْبُ، وليس الغرض فيه ذِكْرَ من أوقعه به فاعرف ذلك"[99].
    وتفطن الدكتورة بنت الشَّاطئ للقيمة الجماليَّة التي أدركها ابن جنيِّ في معرض حديثها عن ظاهرة الاستغناء عن الفاعل وبناء الفعل للمفعول، إذ هداها البيان القرآني في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ* وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ [الحاقة 13، 14] ببناء الأفعال نفخ وحملت ودكتا للمفعول إلى أنَّ "اطِّراد هذه الظَّاهرة في موقف البعث والقيامة يُنبِّه إلى أسرار بيانيَّة وراء ضوابط الصَّنعة البلاغيَّة وإجراءات الإعراب الشّكليَّة"[100]. ثم رأَتْ أنَّ بناء الفعل للمفعول والاستغناء عن ذكر الفاعل" فيه تركيز الاهتمام على الحدث بصرف النَّظر عن محدثه"[101].
    وقد يستدعي النَّظم القرآني العدول من البناء للمعلوم إلى المجهول؛ لإبراز سر بلاغيِّ، ربما لا يتَّضح تمام الوضوح بصيغة واحدة: كما في طُبِعَ، وطَبَعَ فهاتان صيغتان وردتا في سورة التَّوبة في سياقين يتقاربان لفظًا ومعنى فبين السِّياقين خمس آيات فقط، الصِّيغة الأولى: قوله تعالى: ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة 87]، والصِّيغة الثَّانية: قوله تعالى: ﴿وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة 93].
    وقد اعتمد الخطيبُ الإسكافيُّ في توضيح المغايرة الصَّرفية للبناءين على السِّياق اللُّغويِّ والحاليِّ، فيرى أنَّ صيغة لم يُسمَّ فاعله جاءت مساوقة لتركيب الآية قبلها، حيث قال تعالى: ﴿وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ [التوبة 86] فنوسب بين آخر هذه الآية، ومطلع الآية التي قبلها ووُفِّق بين صدر الكلام وآخره.
    أمَّا الصِّيغة الثَّانية طَبَعَ فجاءت في تركيب بُسِطَ فيه الكلام وأُشْيِعَ في بيان عذر المعذورين في سياق قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة 91]، وقوله سبحانه: ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ [التوبة 92]، فلمَّا بُسط الكلام في عذر هؤلاء مع ما ناسبه من توبيخ للمتخلفين بغير عذر في قوله عزَّ وجل: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة 93]، فبنى الفعل للفاعل؛ لأنَّ السِّياق سياق بسط وإشباع وتوكيد لحال هؤلاء وهؤلاء، ولم يقع قبل هذا السِّياق ما يقتضي - لفظًا - البناء للمفعول فجاءت على الأصل[102]. وتابعه على ذلك التَّحليل: الكرمانيُّ[103]، وابن الزُّبير[104]، وابن جُمَّاعة[105]، والأنصاريُّ[106]. وهو تناسب لفظي جميل رُوعي منه سياق الآيات لفظًا ومعنى.
    غير أنَّ ابن عاشور[107] يرى أنَّه صرَّح بالفاعل في الصِّيغة الثَّانية؛ لاحتمال أن يكون الطبع فيها غير الطَّبع الذي جُبلوا عليه كما في سياق الصِّيغة الأولى، فهو طبع على طبع لغضب الله عليهم فَحرمهم النَّجاة من الطَّبع الأصليِّ، وزادهم غواية.
    وتُبرز المغايرة بين الصِّيغتين وجهًا آخر من المناسبة التي تجمع بين اللِّفظ والمعنى، حيث أفادت صيغة طَبَعَ أنَّ إسناد الطَّبع إلى الله عزَّ وجل أشد تمكنًا في القلب من بنائه على صيغة طُبِعَ بطرح الفاعل، فهو في الأولى أشدّ وأقوى، وقد كان ذلك لأنَّ صيغة طَبَعَ فيها من المبالغة والتَّأكيد ممَّا ليس في الصِّيغة الثَّانية، ويتَّضح ذلك من سياق الآيات الثَّلاث التي بعد سياق صيغة طَبَعَ فناسب ذلك إسناد الطَّبع إلى الله للإشارة على شدَّة تمكُّن الكفر في قلوبهم بخلاف سياق صيغة المبني للمفعول[108].
    وتظهر – كذلك – قيمة التَّحول في التَّركيب بتقديم صيغة على أخرى؛ لاستشراف قيم دلاليَّة، هي الغاية والسِّرُّ في التَّقديم، يتمثل هذا في يُطاف ويَطُوف حيث وردت الصِّيغتان كلتاهما في سورة الإنسان وسياق الحديث بهما عن الجنَّة والنَّار، فالصِّيغة الأولى في قوله تعالى: ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا﴾ [الإنسان 15]، والثَّانية في قوله تعالى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا﴾ [الإنسان 19].
    نلاحظ أنَّ الفعل المبني للمفعول تقدّم الفعل المبني للفاعل، وقد ذكر سيبويه أنَّهم - أي العرب - "يقدِّمون الذي بيانه أهم لهم وهم ببيانه أعنى وإن كان جميعًا يهمانهم ويعنيانهم"[109]؛ ومن ثمَّ استثمر الخطيبُّ الإسكافيُّ هذه القاعدة المطَّردة في بيان علَّة مجيء النَّظم القرآني على هذا النَّسق، حيث أفاد أنَّ الصِّيغة الأولى في سياقها القصد فيها وصف ما يُطاف به، ولم يقصد وصف الطَّائفين، فناسب لذلك بناء الفعل للمفعول،وأنَّ الصِّيغة الثَّانية في سياقها. المقصود فيها وصف الطَّائفين، لا وصف المطوف به، فقال: "إنَّ القصد في الآية الأولى وصف ما يُطاف به من الأواني دون وصف الطَّائفين، فلمَّا كان المعتمد بالإفادة ذاك بني الفعل مقصودًا به ذكر المفعول لا الفاعل.... وأمَّا الموضع الثَّاني الذي سمَّي فيه الفاعل، وهو قوله: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ﴾ فإنَّ القصد فيه وصف الفاعلين الذين يطوفون بهذه الآنية فوجب ذِكْرهم؛ لتعلُّق الصِّفة بهم"[110].
    وفطن ابن الزُّبير لعلَّة هذا التَّقديم - طردًا للقاعدة السَّابقة - وهي تقديم الأهم، وهو المطاف به، ثُمَّ ذكر المهم وهم الطَّائفون، يقول: "وقدّم المطاف به؛ لأنَّه الذي به تنعُّمهم تناولاً، واتصالاً، وتطعُّمًا، وغذاءً، ومأْكلاً، ومشْربًا فكان أهم للتقديم، ثُمَّ أعقب بذكر الطَّائفين، وهم الولدان المخلدون"[111]. وكان على هذا التَّحليل: الكرمانيّ[112]، وابن جُمَّاعة[113]، والأنصاري[114].
    وأَجْمِلْ بتوضيح الدكتور القيسيِّ رأيًا، حيث قال: "إنَّ المبني للمجهول تقدَّم المبني للمعلوم؛ لأنَّ السِّياق الذي ورد فيه المبني للمجهول كان تعداد النّعم التي يتمتَّع فيها المؤمن في الجنَّة.... فناسب ذلك أنْ تُذكر آنية الفضَّة والأكواب القوارير التي يشربون بها؛ لأنَّها من جملة النَّعم. فإذا انتهى من تعداد ذلك كان لائقًا التَّعقيب بذكر هؤلاء الغلمان الذين يقومون بخدمة المؤمنين ويقدِّمون لهم ما يقدّم من ألوان هذه النِّعم التي ذكرت قبل. وإنَّه لمن المعقول حقًّا أن يتقدم تعداد النِّعم على من يقومون بتقديمها؛ لأنَّ من طبيعة الأشياء أن لا يكون للمرء خدم وحشم إلا إذا كان صاحب نعمة"[115].
    ‌ج- تعاقب أبنية الفعل:
    وردت صيغة سبَّح في فواتح ثلاث سور: الحديد، والحشر، والصَّف في قوله سبحانه: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ﴾ وجاءت يُسِّبح في فاتحة الجمعة، والتَّغابن، وهي قوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ﴾.
    يشير أبو حيان[116]، وابن جُمَّاعة[117] إلى علَّة التَّلوين بين البناءين، وهي: الديمومة والاستمرار في تسبيح الله عزَّ وجل في السموات والأرض، فلمَّا أخبر بتسبيح المخلوقات بصيغة المضيّ أولاً أخبر أنَّ ذلك التَّسبيح دائم لا ينقطع، وأنَّه باق ببقائه سبحانه من خلال صيغة المضارع التي تدلّ على الاستمرار، واستحضار صورة التَّسبيح.
    ولم يبتعد الرّازيُّ[118]، والشَّوكانيُّ[119] عن هذا التَّأويل جمعًا بين المضيِّ والاستقبال للبناءين؛ للدَّلالة على هذه الدَّيمومة.
    وقد أفاد البغويُّ[120]، وأبو السُّعود[121]، والألوسيُّ[122] بأنَّ هذه المغايرة فيها: إشعار بأنَّ من شأن المؤمن إذا أُسند إليه التَّسبيح أن يسبِّحه في جميع أوقاته مقارنة بالملأ الأعلى الذين يسبِّحون اللَّيل والنَّهار لا يفتُرون.
    ويرى البقاعي[123] أنَّ مجيء صيغة المضيِّ ثلاث مرَّات في فواتح الحديد والحشر والصَّف للإثبات المؤكّد، ثُمَّ حدث التَّحُّول في التَّركيب إلى صيغة المضارع في سياق سورة الجمعة؛ ليدلَّ على استمرار وتجديد التَّنزيه له سبحانه لاستمرار ملكه، وأكّد ذلك في فاتحة التغابن، وفصل بين هذه السُّور بسورة خالية من التَّسبيح؛ ليكون ذلك أولى على قصد التَّأكيد من حيث شدَّة الاعتناء بالذَّكر، وإن وقع فصل بين المسبِّحات.
    ويتتبع الكرمانيُّ[124] صيغة سَبَّح في السِّياق القرآني كلّه فألمح إلى أنَّ المغايرة بين الماضي والمضارع في السِّياقات السَّابقة وصيغة الأمر في سورة الأعلى ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾ [الأعلى 1]، والمصدر في الإسراء: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾ [الإسراء 1] جاءت استيعابًا، واستيفاءً لهذه الصِّيغة من حيث الوجهة الدَّلاليَّة لجميع صورها في سياقاتها.
    وممَّا سبيله ذلك السَّبيل من التَّنوع بين الماضي والمضارع صيغتا: يُضل، وضّلَّ حيث تغايرت الصِّيغتان في سياقهما فجاءت صيغة المضارع في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام 117] وجاءت صيغة المضيِّ في قوله سبحانه: في ثلاث مواضع: [النحل 125]، و[النجم 30]، و[القلم 7].
    وقد اعتمد الإسكافيُّ[125] على السِّياق اللُّغويِّ السَّابق واللاَّحق في ربط صيغة المضارع بالنَّسق القرآنيِّ فقبلها قوله تعالى: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾ [الأنعام 116]، وبعدها: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام 119].
    وعلى هدي من هذا الاعتماد يأتي ابن الزُّبير[126]؛ ليعلِّل مجيء سياق آية النَّجم بصيغة الماضي؛ لأنَّها مبنيَّة على مطلع السُّورة، وهو قوله عزَّ وجل: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم 1، 2]، فبرَّأ الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - ممَّا قالوه، وأثبت ذلك لهم بكناية وتعريض أوقع في نفوسهم من التَّصريح فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾ [النجم 30].
    ويلون ابن جُمَّاعة[127] بين السِّياقين اللُّغويِّ والحاليِّ، حيث يوافق الإسكافيَّ في تحليل صيغة آية الأنعام، وذكر أنَّها جاءت بالمضارع؛ لما تقدَّمها، ولكنّه يستعمل سياق الحال في تأويل صيغة المضيِّ في سياقاتها فهي إخبار عَمّا سبق منه الضَّلال. وبمثل هذا القول قال الفخر الرازيُّ[128] حيث أشار إلى أنَّ صيغة المضيِّ تدلُّ على حصول الضَّلال في الماضي، بدليل سياق الأمر بالإعراض عن المجرمين ﴿َأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [النجم 29].
    وأمَّا صيغة المضارع يَضِلُّ فلأن قبلها قرينة السِّياق اللُّغويِّ وهي قوله سبحانه: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾ [الأنعام 116] فناسب المضارع.
    ويلوِّن الأسلوب القرآني - كذلك - بين صيغتي: يُرسل التي للمضارع وأرسل التي للمضيِّ، حيث وردت الصِّيغة الأولى في سياق إرسال الرياح من قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الأعراف 57]، وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ [الروم 48]، وجاءت الصِّيغة الثَّانية في السِّياق نفسه من قوله عزَّ وجل: ﴿َهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الفرقان 48]، وقوله: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ [فاطر 9]. فما الفرق الدَّلاليُّ بينها؟
    ارتكز الخطيب والإسكافي[129] في وصف هذه الظَّاهرة على السِّياق اللُّغويِّ ونظم القرآن، فيرى أنَّ ما جاء على ظاهر نسقه إلى مشاكلة ما قبله من حيث العلاقة الدَّلاليَّة بين الصِّيغة ودلالة التَّركيب قبلها فجاءت صيغة في الأعراف بلفظ المستقبل؟ لأنَّ قبلها قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف 56].
    فلمَّا تقدَّم ذكر الخوف والطَّمع اللَّذين يكونان في المستقبل ورد الفعل بهذه الصِّيغة لشبهه بما قبله.
    وأضاف ابن الزُّبير[130]، وابن جُمَّاعة[131]: تقدَّم مجيء ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ [الأعراف 54] بلفظ المستقبل؛ لأنَّ ذلك يتكرّر فكانت المناسبة بين الصِّيغة وما ورد في السِّياق بلفظ المستقبل.
    أمَّا آية الفرقان فقد جاءت بلفظ المضيّ؛ لأنَّ قبلها قوله عزَّ وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾ [الفرقان 47] فعدَّد في السِّياقين: ما أنعم به على عباده بصيغة المضيّ مرات. وإرسال الرِّياح من هذه النِّعم، كما أنَّ بعد الآية ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ [الفرقان 53]، ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا﴾ [الفرقان 54] فكان المناسب: لفظ المضيّ؛ اعتمادًا على السِّياق اللُّغويِّ السَّابق واللاَّحق[132].
    وسياق آية الرُّوم جاءت - كذلك - بلفظ المستقبل لمجيء الآية قبلها بلفظ المستقبل ﴿َمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾ [الروم 46] فناسب ذلك يرسل؛ ليكون على بناء ما قبله لفظًا.
    وأمَّا آية فاطر فجاءت بلفظ الماضي أرسل؛ لأنَّ أوَّل السُّورة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ﴾ [فاطر 1] فناسب مجيء الفعل بالمضي؛ لبناء التَّركيب قبله.
    وذكر ابن جُمَّاعة[133] تعليلاً آخر عند سياق آية فاطر، وهو أنه تقدم قبل ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [فاطر 3]، وإنَّما يُذَكَّر بشكر النِّعم الماضية على زمن الشُّكر، فكانت المناسبة مجيء الفعل ماضيًا.
    وأرجع أبو حيَّان[134] اختلاف الصِّيغتين؛ للتَّصُّرف في البلاغة، وللتَّفنُّن في الكلام.
    ثالثًا: الأبنية بين الاسمية والفعليَّة
    المغايرة بين الاسم والفعل في التَّركيب، طريقة من طرق التَّلوين في الخطاب ففي القرآن الكريم أبنية متماثلة من حيث الاسميَّة والفعليَّة، فترد في موطن بالصِّيغة الاسميَّة، وفي موطن آخر بالصِّيغة الفعلية.
    يقول عبد القاهر الجرجانيُّ وهو يتكلم على الفرق بين الإسناد إذا كان بالاسم وبينه إذا كان بالفعل: "وبيانه أنَّ موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشَّيء من غير أن يقتضي تجدُّده شيئًا بعد شيء. وأمَّا الفعل فموضوعه على أن يقتضي تجدُّد المعنى المثبت به شيئًا بعد شيء. فإذا قلت: زيدٌ منطلقٌ فقد أثبت الانطلاق فعلاً له من غير أن تجعله يتجدَّد ويحدُث منه شيئًا فشيئًا، بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك: زيدٌ طويل وعمرو قصير فكما لا يقصد ههنا إلى أن تجعل الطُّول أو القصر يتجدّد، ويحدُث بل توجبهما وتثبتهما فقط وتقضي بوجودهما على الإطلاق، كذلك لا تتعرض في قولك: زيدٌ منطلق لأكثر من إثباته لزيد.
    وأمَّا الفعل فإنَّه يقصد فيه إلى ذلك، فإذا قلت: زيد هاهو ذا ينطلق فقد زعمت أنَّ الانطلاق يقع منه جزءًا فجزءًا وجعلته يزاوله ويزجيه"[135].
    ويقول الفخر الرازيُّ: "الاسم له دلالة على الحقيقة دون زمانها، فإذا قلت: زيد منطلق لم يُفِدْ إلا إسنادَ الانطلاق إلى زيد. وأمَّا الفعل فله دلالة على الحقيقة وزمانها، فإذا قلت: انطلق زيدٌ أفاد ثبوت الانطلاق في زمان معين لزيد، وكلُّ ما كان زمانيًّا فهو متغير، والتَّغيُّر مُشْعِر بالتَّجدد، فإذن الإخبار بالفعل يفيد وراء أصل الثُّبوت كون الثَّابت في التَّجدد والاسم لا يقتضي ذلك"[136].
    وإذا كان المراد إفادة التَّجدُّد كان المسند فعلاً، وأمَّا "الحالة المقتضية لكونه اسمًا فهي: إذا لم يكن المراد إفادة التَّخصيص بأحد الأزمنة الثَّلاثة إفادة الفعل لأغراض تتعلَّق بذلك"[137].
    فإذا كان هناك آيات قرآنيَّة وردت فيها مفردات بالصِّيغة الاسميَّة وفي نظائرها بالصِّيغة الفعليَّة، فلابد أن يكون هناك سبب للتَّخصيص بحيث لا يُمكن أن تقع مفردة مكان نظيرتها، ولو وقعن لاختلَّ النَّظم.
    وسنحاول في النُّصوص الآتية تحليل الفرق في المعنى عند المغايرة بين الاسم والفعل في الأبنية المتماثلة:
    ‌أ- بين الفعل المضارع واسم الفاعل:
    وردت الصِّيغتان يُخرج ومُخرِج في سياق قوله تعالى: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾ [الأنعام 95] حيث جاء المعطوف فيها اسمًا مُخرج وفي سياق قوله تعالى: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [يونس 31، والروم 19] حيث جاء المعطوف فعلاً ويخرج.
    وقد ظهرت المغايرة في السِّياقين في أحوال المسند بين صيغتي الفعل والاسم وهذه المغايرة تمثِّل في النَّص نوعًا من أنواع التَّرابط؛ لأنَّ الأصل أن يعطف الفعل على الفعل، والاسم على الاسم.
    وقد اختلفتْ نظرة اللُّغويين والمفسِّرين في توضيح تلك المغايرة في قوله ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾، أهو معطوف على الفعل الذي قبله أم على اسم الفاعل في: ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾؟ فذهب الأكثرون منهم إلى أنَّه معطوف على اسم الفاعل فالق الحب وهذا ما أفصح به الخطيبُ الإسكافيُّ[138]؛ اعتمادًا على السِّياق اللُّغويِّ السَّابق في قوله: ﴿فَالِقُ الْحَبِّ﴾ واللاَّحق في قوله: ﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ﴾ [الأنعام 96]، وعدَّ ذلك من باب التَّناسُب والتَّناسق اللَّفظيِّ في التَّركيب.
    وعلى غرار هذا الإفصاح يأتي الزمخشريُّ متسائلاً: "كيف قال: ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾ بلفظ اسم الفاعل، بعد قوله تعالى: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾؟ قلت: عطفه على ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ لا على الفعل. و﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ موقعه موقع الجملة المبنيَّة لقوله ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾؛ لأنَّ فلق الحبِّ والنَّوى بالنبَّات والشَّجر النَّاميين من جنس إخراج الحي من الميت؛ لأنَّ النَّامي في حكم الحيوان، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الروم 19]"[139]. ويجاري الإسكافيَّ والزمخشريَّ في تحليلهما: الكرمانيُّ[140]، وابن جُمَّاعة[141]، والأنصاريُّ[142].
    ونقل ابن الزُّبير الغرناطي[143] قول الزمخشريِّ وعدَّه من حسناته، كما نقله النَّسفيُّ[144]، وأبو حيَّان[145]، وأبو ريَّان[146]، واقتصر العزّ بن عبد السلام[147] على هذا الوجه ولم يُجز غيره، فلا يجوز عطف الاسم على الفعل.
    وذكر السَّمين الحلبيُّ[148] وجهين في اسم الفاعل مخرج: الأوّل: ما تقدَّم من كونه معطوفًا على فالق، والثَّاني: أنَّه معطوف على يخرج ويؤول الفعل حينئذ بالاسم، واستدلَّ بقول الشَّاعر[149]:
    فَأَلْفَيْتُه يَوْمًا يُبِيرُ عَدُوَّهُ ومَجْرٍ عَطَاءً يَسْتَخِفُ المعَابِرا
    أي: مُبِيرًا.
    وقول الآخر[150]:
    بَاتَ يُغَشِّيها بعَضْبٍ بَاتِرٍ يَقْصِدُ فِي أَسْوُقِها وَجَائرُ
    أي: قاصد.
    وقد اختلفت نظرة الرّازيّ[151] عن سابقيه في بيان نكتة المخالفة بين اسم الفاعل والفعل المضارع، وأفاد أنَّ لفظ الفعل يدلُّ على اعتناء الفاعل بذلك الفعل في كل حين وأوان، وأمَّا لفظ الاسم فإنَّه لا يفيد التَّجدُّد والاعتناء به ساعة فساعة، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [فاطر 3]، فقوله: يرزقكم جاء فعلاً؛ ليفيد أنَّه يرزقهم حالاً فحالاً وساعة فساعة، وأمَّا الاسم فمثل قوله سبحانه: ﴿وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف 18]، فاسم الفاعل باسط يدلّ على الثَّبات والبقاء على تلك الحالة.
    ويؤكد الرازيُّ هذه المناسبة بين الاسم والفعل، وهي أنَّ: "الحيّ أشرف من الميت فوجب أن يكون الاعتناء بإخراج الحيّ من الميت أكثر من الاعتناء بإخراج الميت من الحيّ؛ فلهذا المعنى وقع التَّعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل، وعن الثَّاني بصيغة الاسم؛ تنبيهًا على أنَّ الاعتناء بإيجاد الحيِّ من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحيّ"[152].
    ويستغل ابن عاشور هذا التَّحليل ويعلِّله بأنَّ: "أحد الإخراجين ليس أولى بالحكم من قرينه...."[153].
    وقد استخلص ابن أبي الأصبع دلالة أخرى من هذا التَّلوين قال: "وأمَّا قوله يخرج الحي بلفظ الفعل عند تقديم إخراج الحيِّ لِمَا في الحيِّ من الحركة التي تعينه عند الخروج، فخروجه أسهل على مخرجه من خروج الميت من الحي، فاقتضت البلاغة تقديمه بلفظ الفعل المقتضي للحال والاستقبال؛ ليكون ذكر خروج الميت بعده انتقالاً من الأدنى إلى الأعلى، وجعل خروج الميت مستندًا إلى لفظ الفاعل المضاف الدّال على المضيّ؛ ليكون خروج الأصعب مفرعًا من وقوعه؛ ليكون أدلّ على القدرة وأبلغ في التمّدح"[154].
    ويفصح الدكتور فاضل السَّامرائي[155] بدلالة أقرب إلى تحليل الرازيّ وإشارة ابن أبي الإصبع، حيث أفاد أنَّ الفعل يدلُّ على الحدوث والتَّجدُّد، وأمَّا الاسم فيدلُّ على الثُّبوت، فاستعمل الفعل يخرج مع الحيّ؛ لأنَّ أبرز صفات الحيِّ الحركة، واستعمل الاسم مخرج مع الميت؛ لأنَّ الميت في حالة همود وسكون وثبات.
    ومن الصِّيغ التي تتغاير بين الاسميَّة والفعليَّة في سياقهما، صيغتا: أنصح وناصح فهاتان الصِّيغتان كلتاهما وردتا في قصتين مختلفتين الأولى في سياق قصة نوح - عليه السلام - في قوله تعالى: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ﴾ [الأعراف 62]، والثَّانية في سياق قصة هود - عليه السلام - من قوله تعالى: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ [الأعراف 68].
    جاء التَّركيب الأوَّل باستعمال المسند فعلاً: أنصح لكم، وفي التَّركيب الثَّاني جاء المسند اسمًا: ﴿وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾، فما سرُّ المغايرة بين البناءين؟.
    يُرجع الخطيبُ الإسكافيُّ[156] وجه المغايرة إلى أنَّ نوحًا ضُلِّل من قومه، قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [الأعراف 60]، وأمَّا هود فَسُفِّه من قومه، قال سبحانه: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾ [الأعراف 66]، والضَّلال من صفات الأفعال! والسَّفاهة من صفات النَّفس، وهي معنىً ثابت وضدها الحلم، فلمَّا عيب نوح - عليه السلام - بفعل مذموم نفاه بفعل محمود بل بأفعال محمودة. وأمَّا هود - عليه السلام - فَرُمِي بالسَّفاهة، وهي صفة مذمومة ثابتة فلا يَتحوّل عنها الإنسان سريعًا، فكان المناسب نفي ذلك بصفة أو صفات ثابتة ناصح أمين، أي ثابت في النُّصح لا أنتقل عنه إلى غشًّ.
    وأقرب من هذا التَّوصيف لتلك المغايرة ما ذهب إليه ابن جُمَّاعة[157] حيث ذكر أنَّ الضَّلال صفة غير ثابتة فيمكن الخلوص منه سريعًا، وهو يتجدَّد بترك الصَّواب إلى ضده فقُوبل في قول نوح - عليه السلام - بفعل يناسبه وأنصح. وأمَّا هود فقد اتُهم بالسَّفاهة، وهي من الصِّفات اللاَّزمة لصاحبها فقابلها بصفة ثابتة كذلك ناصح أمين.
    كما أدرك الفخر الرازيُّ دلالة التَّلوين بين الفعليَّة والاسميَّة على التَّجدُّد والثَّّبات "فلمّا كان من عادة نوح - عليه السلام - العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم، وفي كل ساعة لا جرم ذكره بصيغة الفعل فقال: وأنصح لكم. وأمّا هود - عليه السلام - فقوله: وأنا لكم ناصح يدلُّ على كونه مثبتًا في تلك النَّصيحة مستقرًا فيها"[158].
    وعلى طريقة الرَّازيِّ في توصيفه يأتي ابن الزُّبير الغرناطيُّ موضحًا الفارق الأساس بين الفعليَّة والاسميَّة في الاستعمال فذكر أنَّ نوحًا في سياق الآية الأولى "بيَّن لهم نصحه واستمراره في إبلاغهم ونصحهم فقال: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ﴾، ثُمَّ أتبع بتعريفهم بجهلهم بما عنده من ربه وبعلمه هو بذلك فقال: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، وإنَّما قال: وأنصح، وأعلم؛ ليعلم بتماديه على النُّصح لهم وهم لا يشعرون ولا يهتدون... وأمَّا جواب هود - عليه السلام - فإنَّما أتى في إخبارهم بنصحه وأمانته بالاسم فقال: ناصح أمين، ولم يقل أنصح فيأتي بالفعل؛ ليحصل منه أنَّ ذلك الوصف الجليل لازم له غير مفارق، ولم يكن الفعل ليعطي ذلك، فجاء بالاسم وجعله الخبر عن ضميره الذي هو أنا"[159].
    ودلالة الصِّيغة الفعليَّة على التَّجدُّد والاستمرار جاء بالتَّأكيد في السِّياق القرآنيِّ على لسان نوح - عليه السلام -: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح 5: 9].
    وتتجاوب القيمة التَّعبيرية للتَّركيب التي ارتادها ابن الزُّبير ههنا مع مراعاة السِّياق القرآنيِّ لنسق المغايرة بين الفعليَّة الدَّالة على الحدوث والتَّجدُّد والاسمية الدَّالة على الثُّبوت والاستقرار للتَّركيبين: ﴿قَالُواْ آمَنَّا﴾، و﴿قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ﴾ في سياق قوله تعالى في وصف المنافقين: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة 14]، حيث ذكر أنَّ: "المنافقين خاطبوا المؤمنين بالصِّيغة الفعليَّة الدَّالة على الحدوث والتَّجدُّد آمنا، وخاطبوا إخوانهم وشياطينهم بالصِّيغة الاسميَّة الدَّالة على الثبوت والدَّوام فقالوا: إنا معكم"[160].
    والتَّحوُّل في التَّركيب من الفعليَّة إلى الاسميَّة؛ إظهار للثَّبات على معتقدهم الفاسد، وأنَّ ما خاطبوا به المؤمنين أمر متجدِّد بسبب لقائهم؛ تُقْية فقط[161].
    ويميل الكرمانيُّ[162] للسِّياق اللُّغويِّ؛ لبيان الدَّقيقة التَّعبيريَّة للتَّغاير بين الفعليَّة والاسميَّة في سياقهما، حيث رأى أنَّ مجيء الصِّيغة الفعليَّة أنصح للمناسبة اللَّفظيَّة في صدر الآية أبلغكم، فعطف عليه وأنصح كما عطف الماضي على الماضي في سياق الآية الأخرى ﴿لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾ [الأعراف 93]، وأمَّا في قول هود - عليه السلام - فورد اسم الفاعل ناصح؛ ليقابل اسم الفاعل في قولهم: ﴿وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [الأعراف 66] فقوبل الاسم بالاسم. ووافقه على هذا التَّحليل النَّسفيُّ[163]، وأبو حيَّان[164]، والأنصاريُّ[165].
    ومن ثّمَّ تتمثَّل أمامنا - عمليًا - القيمة الجماليَّة والتَّعبيريَّة للتَّلوين بين الفعليَّة والاسميَّة، ففي قول نوح - عليه السلام - وأنصح ما يدلُّ على التَّجدُّد والاستمرار؛ فإنَّ قومه كانوا يرمونه بالضَّلالة، ومع ذلك لا يترك نصحهم لكراهيته، أو بذاءتهم[166]، فكان - عليه السلام - يُجدِّد في الخطاب والدعوة في كل يوم وساعة في اللَّيل والنَّهار﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا﴾ [نوح 5] فوصفهم إيَّاه بالضَّلال وصف عارض يمكن تركه إلى نقيضه من الهدى، فناسبه الصَّيغة التي تدلُّ على الحدوث، فجاء بعده قوله: وأنصح؛ ليناسب الحدوثُ الحدوثَ[167].
    وأما هود - عليه السلام - فقال: ناصح أمين؛ ليدلَّ على أنَّه ثابت في نصحه، وأنَّ النُّصح صفة لازمة له كما يدلُّ على ذلك اسم الفاعل الذي يدلُّ على الثَّبات[168]، والسَّفاهة التي وصف بها: صفة لازمة لصاحبها ثابتة فيه، فأتى بالصِّيغة التي تدلُّ على الثُّبوت ناصح؛ ليناسب الثُّبوتُ الثُّبوتَ[169].
    ‌ب- بين الفعل المضارع والمصدر:
    وردت صيغة يكذبون في قوله عزَّ وجل: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ﴾ [الانشقاق 22]، وصيغة المصدر تكذيب في قوله سبحانه: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ﴾ [البروج 19].
    استغلَّ الخطيبُ الإسكافيُّ العلَّة نفسها في الكشف عن سرِّ هذا التَّغاير في مبنى الفعلين، فربط بينه وبين السِّياق اللُّغويِّ المتمثِّل في الفواصل في السُّورتين مع صحَّة المعنى واللَّفظ.
    فالصِّيغتان معناهما واحد، وإنَّما اختلف اللَّفظان، مراعاة للفواصل فصيغة المضارع؛ مراعاة لما قبلها، وصيغة المصدر جاءت في فواصل مردفة بياء، أو واو، يقول: "إنَّ ما قبل الأولى: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ* وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ﴾ [الانشقاق 20: 22] فكانت الفواصل التي تقدمتها على يفعلون فجعلت هذه تابعة لها مع صحة المعنى واللَّفظ، والثَّانية في فواصل بياء أو واو، وهي قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ* فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ* وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ﴾ [البروج 17: 20] وعلى ذلك بُنيت السُّورة فكان حملها على نظائرها من السُّور أولى مع صحَّة اللَّفظ والمعنى"[170]. ووافقه في مراعاته لفواصل الآيات؛ اعتمادًا على السياقين اللُّغويِّ والحاليِّ: الكرمانيُّ[171]، والأنصاريُّ[172].
    ولحظ ابن الزُّبير الغرناطيُّ إيثار النَّسق القرآنيِّ المغايرة بين الصِّيغتين لسياق الحال في التَّركيبين وعلاقته بالسِّياق السَّابق للصِّيغتين كلتيهما، فآية الانشقاق سبقها وعيد لم يقع، فناسب الإتيان بلفظ المضارع للدَّلالة على الحال والاستقبال.
    أمَّا آية البروج فقد سبقها معاقبة آل فرعون وأخذهم وقد مضى زمانهم، فناسب الإتيان بالمصدر؛ ليدلَّ على أنَّ ذلك شأنهم فيما سبق وأنَّ ذلك شأنهم أبدًا، فيقول: "إنَّ آية الانشقاق تقدَّمها وعيدٌ أخروي علَّة لم يقع بعد، وهم مكذِّبون بجميعه، فجيء هنا باللَّفظ المقول على الاستقبال.... فأمَّا آية البروج فقد تقدمها قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ* فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ﴾ [البروج 17، 18]، وحديث هؤلاء وأخذهم بتكذيبهم قد تقدَّم ومضى زمانه وهؤلاء مستمِّرون على تكذيبهم فقيل: في تكذيب وجيء بالمصدر؛ ليحرز تماديهم، وأنَّ ذلك شأنهم أبدًا فيما أخبرهم به"[173].
    ولم يقف التَّوجيه الدَّلالي لهذه المغايرة عند حدِّ الفعليَّة والاسميَّة ودلالتهما، بل تعدَّاها لأغراض أخرى يتمخض عنها السِّياق في موضعه، من هذه الأغراض: عدم مماثلة قوم فرعون وثمود لهؤلاء المكذبين، بل هم أشدّ تكذيبًا وطغيانًا، كما أنَّ التّكذيب محاط بهم من كل مكان، هذا ما ألمح إليه الألوسيّ - في توجيه آية البروج - بقوله: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي من قومك.... ﴿ فِي تَكْذِيبٍ﴾ اضطراب انتقالي عن مماثلتهم لهم أي قوم فرعون وثمود، وبيان لكونهم أشدّ منهم في الكفر والطغيان كما نبئ عنه العدول عن يكذبون إلى في تكذيب المفيد لإحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بالفريق منه...."[174].
    ومعنى الإحاطة التي ذكرها الألوسي مستفادة من السِّياق اللُّغوي في التَّركيب فحرف الجر في يفيد معنى الظَّرفية، وهو أصل معانيها، يقول سيبويه: "وأمَّا في فهي للوعاء"[175]، وذكر هذا المعنى المبرِّد[176]، وابن السَّرَّاج[177]، وأكَّده الرُّمانيّ[178]، والزَّبيديّ[179]، والجرجانيّ[180]، والعكبريّ[181]، والزَّمخشريّ[182]، وتبعه ابن يعيش[183]، والحيدرة[184]، ونصَّ ابن عُصفور[185] على أنَّها للوعاء حقيقة ومجازًا، وكذا المالقيّ[186]، والرَّضيّ[187]،
    والمراديّ[188]، والإربليّ[189]، وابن هشام[190]، فكأنَّ التَّكذيب وعاء ضمَّ الكافرين وأحاط بهم، كما أنَّ هذا المعنى مناسب مع النَّسق القرآني بعد آية البروج، وهو قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ﴾.
    أحوال أبنية الألفاظ
    أولاً: التعريف والتَّنكير:
    يراوح النَّظم القرآنيُّ في كثير من سياقاته بين التَّعريف والتَّنكير؛ تبعًا لما يناسب المقام، فقد نجد الصِّيغة تتلوَّن في النَّصِّ القرآنيِّ بين التعريف والتَّنكير.
    والاسم المعرف بـأل يُعد في نظر النَّحوييِّن أقرب المعارف إلى النَّكرة، يقول ابن يعيش: "فالألف واللام أبهم المعارف وأقربها من النكرات؛ ولذلك نُعتت بالنكرة، كقولك: أني لأمر بالرجل غيرك فيمنعني وبالرجل مثلك فيعطيني؛ لأنَّك لا تقصد رجلاً بعينه...."[191].
    وربما يظهر في بعض الأسلوب القرآني أنَّ الاسم المنكَّر بمنزلة المعرَّف وبالعكس خاصة إذا كانت اللاَّم للجنس، على أنَّ الاسم لا يكتسب قيمته البلاغيَّة لكونه نكرةً أو معرفةً، وإنما للسِّياق الذي سيق فيه، وهذا ما بيَّنه عبد القاهر الجرجاني في ثنايا حديثه عن نظرية النَّظم من ذلك تنكير لفظ الحياة في قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة 96] قال: "إذا أنت راجعت نفسك وأذكيت حسَّك وجدت لهذا التَّنكير، وإن قيل: على حياة، ولم يقل: على الحياة حُسنًا وروعة ولطف موقع لا يقادر قدرته وتجدك تعدم ذلك مع التَّعريف، وتخرج عن الأريحيَّة والأنس إلى خلافهما...." [192].
    وقد وردت أبنية اختلفت من حيث التَّنكير والتَّعريف في نسيج النَّظم القرآنيِّ من ذلك:
    أ- لفظ "الحق" بالتَّعريف والتَّنكير:
    فورد معرَّفًا في قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [البقرة 61]، ومنكَّرًا في قوله عز وجل: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران 21]، وقوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران 112].
    هذه المغايرة بين التَّعريف والتَّنكير ترتبط بالسِّياق اللُّغويِّ المصاحب لكل لفظة، وهذا ما انساق إليه ابن الزُّبير في تحليل الصِّيغتين؛ إذ ربط بين مواضع البقرة وآل عمران وسياق السُّور، فقال: "ولمَّا كانت الأولى في سورة البقرة إنَّما هي في سلفهم فمّن لم يشاهد أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد وقع في الإفصاح فيها بكفرهم بعد تعريفهم بذكر آلاء ونعم وقد ورد فيها أنَّ بعض تلك المرتكبات، أو أكثرها قد عفي عنهم فيها، ولاشك أنَّ بعضهم قد سلَّم ممَّا وقع منه الأكثر من كفرهم.... فهم وإن وصفوا من الكفر والاعتداء بما وصفوا ليسوا في ارتكاب البُهت والمجاهرة بالباطل وموالاة التمرد والاعتداء وحال معاينة البراهين.... فناسب حال أولئك الذين لم يشاهدوه ما وقع التَّعبير به من قوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [البقرة 61]؛ إذ ليس المعرَّف في قوة المنكَّر المرادف لقولك بغير سبب، وأيضًا فقد تقرر عندهم أنَّ مسوِّغ قتل النَّفس تقدم قتل النفس بغير الحق، قال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة 45]، وتقرَّر عندهم رجم الزاني المحصن، وقد عرفنا ذلك من دينهم بالخبر الصَّحيح، وأنَّهم اعترفوا بذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد إنكارهم.... وكيف ما كان فقد استقرَّ عندهم ما يسوغ القتل ويوجبه بعد الإيمان، وقد علموا أنَّ الأنبياء - عليهم السَّلام - مبرؤون من ذلك كلِّه، فقوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ أي بغير وجه الحق المبيح للقتل، فالألف واللاَّم للعهد في المسوِّغ المتقرر في شريعتهم فقد افترق مقصد الآيتين، وأمَّا الأولى من آيتي آل عمران فخاصَّة بالمتمادين منهم على الكفر، ولا تتناول الآية من أوَّلها إلى آخرها خلافه فهي كالآية الثَّانية فيما أعطته ودلَّت عليه من التَّمرد والتَّمادي على الضَّلال فناسبها التَّذكير كالتي بعدها وهما معًا من التَّمرد والتَّمادي على الضَّلال فناسبها التَّذكير كالتي بعدها وهما معًا بخلاف آية البقرة؛ إذ لم يتقدم في هاتين ما تقدم في تلك ولا حالة المذكورين في هاتين كحال من ذكر في تلك"[193].
    واتَّجه البقاعيُّ اتجاهًا مغايرًا، حيث نظر إلى التَّنكير في آل عمران على أنَّه أبلغ من التَّعريف في البقرة، قال: "ولمَّا كان قتلهم إياهم بدون شبهة أصلاً بل لمحض الكفر والعناد؛ لأنَّ الأنبياء مبرؤون من أن يكون لأحد قبلهم حق دنيويّ أو أخرويّ، قال: بغير حق، أي لا صغير ولا كبير في نفس الأمر ولا في اعتقادهم، فهو أبلغ ممَّا في البقرة على عادة أفعال الحكماء في الابتداء بالأخفِّ فالأخف"[194].
    ومهما يكن من شيء فمقصد هذه الآيات بيان جرائم بني إسرائيل، وكان قتل الأنبياء من أعظم هذه الجرائم؛ لذا كانت المبالغة في تنويع هذا القيد بغير الحق بين التَّعريف والتَّنكير. أمَّا التَّعريف فللإشارة إلى أنَّ قتلهم الأنبياء لم يكن بحق مشروع معهود عندهم أو عند غيرهم، وأمَّا التَّنكير فللإيذان بأنَّ صنيعهم لم يكن بغير حق مطلقًا.
    ب- لفظ النار معرَّفًا ومنكَّرًا:
    ورد لفظ النَّار معرَّفًا في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم 6]، وورد منكَّرًا في قوله تعالى مخاطبًا الكافرين: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة 24].
    يربط أبو حيَّان بين سياق اللَّفظين وبين نزول السُّورتين - ترتيبًا -، حيث ورد لفظ النَّار منكرًا في سياق سورة التَّحريم المكيَّة، وجاء معرَّفًا بالكلاَّم في آية البقرة المدنية، فسورة التَّحريم نزلت في مكة قبل البقرة؛ لذا جاءت نكرة في أوَّل النُّزول، ثُمَّ عرفت فيما نزل بالمدينة، يقول: "وعرف النَّار هنا؛ لأنَّه قد تقدّم ذكرها نكرة في سورة التَّحريم، والتي في سورة التَّحريم نزلت بمكة وهذه المدينة، وإذا كُرِّرت النكرة سابقة ذكرت ثانية بالألف واللاَّم وصارت معرفة؛ لتقدَّمها في الذِّكر ووصفت بالتي وصلتها والصِّلة معلومة للسَّامع؛ لتقدُّم ذكر قوله: ﴿نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، أو لسماع ذلك من أهل الكتاب قبل نزول الآية"[195].
    بينما يرى البقاعيُّ أنَّ: "تعريف النَّار وصلة الموصول؛ لأنَّ أخبار القرآن بعد ثبوت أنَّه من عند الله معلومة مقطوع بها فهو من باب تنزيل الجاهل منزلة العالم؛ تنبيهًا على أنَّ ما جهله لم يجهله أحد"[196].
    وبالجملة فإنَّ لفظ النَّار أحال إلى شيء معهود ذهنيًا قد مضى ذكره، وهو لفظ النَّار منكَّرًا في سورة التَّحريم، ولعلَّ في هذه المغايرة تهديدًا ووعيدًا للكافرين فقد أراد سبحانه قرع الآذان بلفظة النَّار معرفة تارة، ومنكرة أخرى والنُّفوس بطبيعتها تنزجر بتكرار الوعيد وهو ما يعد طريقة من طرق القرآن.
    ثانيًا: التذكير والتَّأنيث:
    تُعد مراوحة الأسلوب القرآني بين التَّذكير والتَّأنيث نوعًا من أنواع التَّرابط النَّصِّي، بل تُعد أثرًا فاعلاً في تجلية المعنى.
    ومغايرة الأسلوب على هذا النَّحو طريقة من طرق العرب في كلامهم وأشعارهم، ففي مواضع كثيرة نجد العربيَّة لا تستعمل الأصل أو لا تضع العلامة التي ترجع إلى الاسم المحال إليه، ولكنّها تغاير فتحدث دورانًا في الكلام بين التَّذكير والتَّأنيث فنجد الإحالة بصيغة التَّذكير والمحال إليه مؤنثًا والعكس حسبما يقتضيه المعنى، وخير مثالٍ على ذلك: النَّظم القرآنيُّ، فقد ذَكّرَ الفعلَ في موطن وأنَّثه في موطن آخر شبيه به؛ مراعيًا في ذلك سياق النَّص.
    فللأسلوب القرآني طريقته في مغايرة الإحالات بين التَّذكير والتأنيث وهذه المغايرة لا تخلو من فائدة أو غرض بلاغيِّ، وهو ما سنحاول عرضه وبيانه من خلال النَّصوص الآتية:
    أ- التَّذكير والتَّأنيث في الأسماء الظَّاهرة:
    تردَّد في ذلك لفظ ذِكْر بالتَّذكير والتَّأنيث، فورد مؤنثًا في قوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام 90]، وورد مذكرًا في موضعين، الأوَّل: قوله تعالى: ﴿َمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ [يوسف 104]، والثَّاني: قوله عزَّ وجل: ﴿إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ [التكوير 27].
    يكمن وجه التَّأنيث عند الكرمانيِّ[197] في آية الأنعام في السِّياق اللُّغويِّ الذي تقدّم من قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام 68]، وقوله سبحانه: ﴿وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام 69]، وبه قال ابن جماعة[198]، والأنصاريّ[199].
    وقد علَّل ابن الزُّبير الغرناطيُّ[200] علَّة التَّذكير في آية التَّكوير بالسِّياق الأسلوبيِّ المتقدِّم للآية، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [التكوير 19]، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ [التكوير 24]، ثم جاء قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ [التكوير 27] مناسبًا لما تقدمه، ولو ورد بخلاف ذلك لِمَا صحَّ لمنافرة التَّناسب ومباعدة التَّلاؤم.
    كذلك اعتمد ابن الزُّبير على السِّياق اللُّغويِّ في توضيح سرِّ تأنيث آية الأنعام بما تقدمها من قوله عزَّ وجل: ﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا ھؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام 89] فكانت المناسبة، ولم يتقدَّم ما يستدعي لفظ التَّذكير ويناسبه.
    وربما – والله أعلم – ورود التَّذكير في آية يوسف، و ص، والتَّكوير على الأصل، فالتَّأنيث فرع له، يقول سيبويه: "وإنَّما كان المؤنث بهذه المنزلة، ولم يكن كالمذكر؛ لأنَّ الأشياء كلها أصلها التَّذكير ثم تختص بعد"[201]، وقال في موطن آخر: "وإنَّما يخرج التَّأنيث من التَّذكير"[202].
    ب- التَّذكير والتَّأنيث في الأسماء الموصولة والضَّمائر:
    جاء الموصول والضمير مذكرًا الذي به في قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [السجدة 20]، وجاء الموصول والضمير مؤنثًا التي بها في قوله سبحانه: ﴿وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ [سبأ 42].
    وقد تنَّوعت المغايرة في السِّياقين بين التَّذكير والتَّأنيث ففي السَّجدة جاء الضَّمير مذكَّرًا راجعًا إلى العذاب، في حين جاء في سبأ مؤنَّثًا راجعًا إلى النَّار، وهذا مبنيٌّ على أنَّ العذاب مذكر، والنَّار مؤنَّثة[203].
    ووجه اختصاص آية السَّجدة بعود الوصف مذكرًا الذي إلى العذاب، وهو مذكر وعود الوصف مؤنثًا التي إلى النَّار - كما في آية سبأ _ وهي مؤنثة؛ لأنَّ النَّار في آية السجدة ظاهرة، وهي موضوعة موضع المضمر؛ لما تقدمها، فالنَّار أَضمرت في ﴿أُعِيدُوا فِيهَا﴾ وأظهرت بعدُ ﴿وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ﴾ فجاءت مظهرة مكان مضمر، والمضمر لا يوصف، فلم توصف النار، وإنَّما وَصف ما أضيف إليها وهو العذاب، ولم تأت آية سبأ على غرار آية السَّجدة؛ لأنَّها في سياقها اللُّغويِّ مظهرة، فجاء الوصف صريحًا للنَّار، يقول الخطيب الإسكافي: "إنَّ النَّار في قوله في سورة السجدة ظاهر في موضع المضمر؛ لتقدّم ذكره في قوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا﴾ فأضمرت ﴿أُعِيدُوا فِيهَا﴾، وأظهرت ﴿وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ﴾ أي عذابها، فوقعت مظهرة مكان المضمر، والتي في سورة سبأ لم تجيء هذا المجيء؛ لأنَّها في مكانها مظهرة، فلمَّا كان المضمر لا يُوصف: بَعُدَ عن الوصف ما حلَّ محله؛ لأنه سدَّ سدَّه، فوصف ما أضيف إليه، وهو العذاب فجاء ﴿عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ ألا ترى أنَّ أوَّله: ﴿وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾"[204]، وتابعه الكرمانيُّ[205]، والأنصاريُّ[206].
    ويُرجع أبو حيَّان استعمال الضَّمير مذكَّرًا في آية السَّجدة "لأنَّهم هنا لم يكونوا متلبسين بالعذاب، بل ذلك أوَّل ما رأوا النَّار إذ جاء عقيب الحشر فوُصِفَت لهم النَّار بأنَّها هي التي كنتم تكذِّبون بها. وأمَّا الذي في السّجدة فهم ملابسو العذاب متردِّدون فيه لقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا﴾ [السجدة 20]، فوصف لهم العذاب الذي هم مباشروه، وهو العذاب المؤبَّد الذي أنكروه"[207].
    وذهب الرَّازي[208] في علَّة التَّذكير والتَّأنيث: أنَّ المكذَّب به في سياق آية السَّجدة هو: العذاب، وفي آية سبأ: النَّار، وهم يكذبون بهما جميعًا ففي آية السجدة ما يدلُّ على أنَّهم كانوا في النَّار منذ أمد وليس ذلك أوَّل ما رأوها بدليل قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾، أي العذاب الأبدي، فهم أنكروا العذاب الأبديّ بقولهم: ﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً﴾ [البقرة 80].
    وأمَّا في آية سبأ فالحال فيها هو بداية رؤيتهم النَّار؛ وذلك لتقدم ذكر الحشر والسُّؤال في قوله: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ 40] فقيل لهم: ﴿ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾.
    وتختلف نظرة ابن الزُّبير[209] عن الرازيِّ في بيان مناسبة التَّذكير والتَّأنيث في السِّياقين فقد أشار إلى أنَّ الكفار يكذِّبون بالنَّار وبعذابها، وقد أضيف العذاب إلى النَّار في السورتين؛ وإنَّما ذكر الوصف في آية السَّجدة؛ لأنَّه جاء بعدها: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ﴾ [السجدة 21] حيث تكرر ذكر العذاب، وفُصِّل بنوعيه الأدنى والأعلى فرُعي مناسبة ذلك بورود الآية بعود الوصف على العذاب؛ ليجري ذلك علِّة مجرى واحدًا.
    وأمَّا آية سبأ فليس قبلها ولا بعدها شيء من ذلك فجاء الوصف بالتَّأنيث وأعيد الضَّمير كذلك، وجاءت السُّورتان بورود الوجهين الجائزين.
    أمَّا ابن عاشور فيرى أنَّ التَّكذيب عُلِّق في آية سبأ بالنَّار، وأمَّا في آية السَّجدة فعُلِّق بالعذاب فجيء بالاسم الموصول المناسب لكل منهما؛ "لأنَّ القول المخبر عنه هنا هو قول الله تعالى وحكمه وقد أذن بهم إلى جهنم وشاهدوها، كما قال تعالى آنفًا: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾ [سبأ 33]، فإنَّ الذي يرى هو ما به العذاب، وأمَّا القول المحكي في سورة السَّجدة فهو قول ملائكة العذاب بدليل قوله: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾[210].
    واتَّجه العكبري اتجاهًا مغايرًا لما مضى، حيث أجاز أن يكون قوله تعالى: ﴿الَّذِي كُنتُم بِهِ﴾ هو صفة العذاب في موضع نصب، ويجوز أن يكون صفة النَّار وذُكِّر على معنى الجحيم أو الحريق"[211].
    والأولى: رؤية جمهور أهل العلم؛ لأنَّه تحليل على الظَّاهر من النُّصوص في سياقها، والحمل على الظَّاهر أولى من الحمل على غيره، وإن ورد في المخصص[212]، والخزانة[213]، بجواز تذكير النَّار فهو قليل على ما صَّرح به ابن سيده ومهما يكن من أمرٍ فعلى القول بجواز تذكير النَّار[214]، يمكن حمل الوصف الذي والضمير به في سياق آية السَّجدة على النَّار؛ لأنَّها تُذكَّر وتؤنَّث، وهنا جاءت بالتَّذكير، وأمَّا في آية سبأ فقد جاءت مؤنَّثة.
    ج- التَّذكير والتأنيث في الأفعال:
    يذكر النُّحاة أنَّ هناك مواطن ومواضع يجوز فيها ذكر تاء التَّأنيث وحذفها، من ذلك أن يكون الفاعل جمع تكسير، نحو قوله تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ﴾ [يوسف 30]، وقوله: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا﴾ [الحجرات 14]، ومن ذلك - أيضًا - أن يفصل بين الفعل وفاعله بفاصل سواء كان الفاعل حقيقيًا نحو قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ﴾ [الممتحنة 12] أم مجازيًّا، نحو قوله تعالى: ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [هود 67].
    وعلى الرُّغم من جواز ذكر تاء التّأنيث وحذفها إذا كان الفاعل جمع تكسير فإنَّنا نرى أنَّ الأسلوب القرآنيَّ لا يتعامل مع هذا الجواز تعاملاً عشوائيًّا وإنمَّا يراعي في ذلك السِّياق[215]. فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [هود 67]، وقوله سبحانه مخبرًا عن قوم شعيب - عليه السلام -: ﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [هود 94].
    صرَّح الخطيبُ الإسكافيُّ[216] أنَّ حذف التَّاء من الفعل في الآية الأولى أخذ للحمل على المعنى، فالصِّيحة والصِّياح بمعنى واحد. فقد حمل على المعنى؛ لأنه أراد الصَِّيحة، أو الاستغاثة، وأمَّا الآية الثَّانية فالفعل لحقه التَّاء أخذت وقد أُنِّث على لفظ الصيحة.
    واستطرد الإسكافيُّ[217] في بيان علَّة المغايرة بين التَّذكير والتَّأنيث ففسَّر في سياق آخر هذه المغايرة تفسيرًا شكليًا بحيث جعل صيغة التَّأنيث مناسبة لِمَا تقدمها من ألفاظ فذكر أنَّ الله أخبرنا عن كيفية إهلاك قوم شعيب - عليه السلام - بثلاثة ألفاظ: الرجفة في قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ [الأعراف 91]، والصَّيحة في قوله سبحانه: ﴿وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ﴾ [هود 94].
    الخاتمة
    وبعد.... فتلك محاولة متواضعة للكشف عن بعض أوجه المناسبة بين الأبنية المتماثلة في النَّظم القرآني، وكان من نتائج هذه المحاولة:
    1. أظهرت الدِّراسة وظيفة السِّياق اللُّغويِّ الذي أتاح لنا تفسير وتوصيف أنساق التَّعبير القرآني بقيمه الجماليَّة والفنيَّة.
    2. أبرزت السِّمات اللُّغويَّة التي يستعملها الخطابُ القرآنيُّ في ظاهرة الأبنية المتماثلة في سياقها.
    3. أوضحت مدى ارتباط ألفاظ القرآن بعضها ببعض، حتى كانت كالكلمة الواحدة متَّسقة المعاني منتظمة المبانيّ.
    4. أشارت الدِّراسة أنَّ أكثر لطائف القرآن مُودعة في مثل هذه الأبنية التي تُعد وحدة بناء يجعل السُّور أو السُّورة من القرآن بنية محكمة متناسبة المعاني والمباني والمطالع والمقاطع.
    5. أظهرت قيمة الصِّيغة في تركيبها؛ لأنَّها تُعدُّ أهم القرائن اللَّفظيَّة التي تعين على فهم الخطاب، ولأنَّها - كذلك قادرة على تفسير السِّياق الخطابيّ، وقادرة - أيضًا - على تحليل النقلة الأسلوبية.
    6. ألمحت الدَّراسة إلى أنَّ المغايرة في الأبنية المتماثلة، هو بحث في التَّنُّوع الأسلوبيِّ الخاضع للسِّياق بنوعيه؛ لأنَّ هذا التَّنُّوع هو إحدى الوسائل التي تساعد على التَّرابط النَّصِّي.
    7. أوضحت أوجه بلاغة السِّياق القرآنيِّ، وهي أوجه المناسبة بين الصيغ المتماثلة في البيان الخطابيِّ للقرآن، وذلك في كيفية انتظام المعاني المتوافقة للصِّيغ المتماثلة مع بيان كيفية مراعاة وحدة السورة وروحها، وجوِّها الخاص في إيراد المعاني المتناسبة، وانتقاء الأبنية لها وبيان - كذلك- كيفية إتيان اللَّفظ بمعناه ومبناه متمكنًا في موقعه لا يسدُّ منه غيره مسدُّه.
    أظهرت الدِّراسة القيمة الدَّلاليَّة للأبنية المتماثلة في محيطها اللُّغويّ الذي تقع منه في إطار من العناصر اللُّغويَّة أو غير اللُّغويَّة،وهما يشكلان ما يُسمَّى بالنَّص الذي هو "منجز لغويُّ ذو علاقات ترابطيَّة فيما بين مكوناته المتتابعة، وذو غرض إبلاغي، بينه وبين الموقف علاقة حضوريَّة متبادل".
    المصادر والمراجع
    1. الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين السُّيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، 1418ھ.
    2. أثر النحاة في الدرس البلاغي، للدكتور عبد القادر حسين، دار نهضة مثر، د. ت.
    3. إرشاد العقل السَّليم إلى مزايا الكتاب الكريم تفسير أبي السُّعود لأبي السُّعود، دار الفكر.
    4. الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية، طبع المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1984م.
    5. الأصول في النحو، لأبي بكر بن السَّراج، مكتبة الخانكي، القاهرة، د. ت.
    6. الإعجاز البياني في صيغ الألفاظ، دراسة تحليلية للإفراد والجمع في القرآن الكريم، للدكتور محمد الأمين الخضري، مطبعة الحسين الإسلامية، القاهرة، ط 1، 1413ھ.
    7. الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق، للدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، دار المعارف، مصر، 1969م.
    8. إعراب القرآن، لأبي جعفر النّحاس، تحقيق الدكتور زهير غازي زاهد، عالم الكتب، ومكتبة النهضة العربية، ط 2، 1405ھ.
    9. أنوار التنزيل وأسرار التأويل تفسير البيضاوي، لأبي سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1408ھ.
    10. البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسيّ، دار الفكر، بيروت، 1412ھ.
    11. بدائع الفوائد، لابن القيم، دار الكتاب العربي، بيروت، 1414ھ.
    12. البرهان في علوم القرآن، لبدر الدين الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الكتبة العربية، صيدا- بيروت، 1408ھ.
    13. البرهان في متشابه القرآن، لمحمود بن حمزة الكرماني، تحقيق أحمد عز الدين عبد الله خلف الله، دار الوفاء، المنصورة- مصر، ط2، 1418ھ.
    14. بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، تحقيق عبد العليم الطحاوي، ومحمد علي النجار، المكتبة العلمية، بيروت، د. ت.
    15. بلاغة الكلمة في التعبير القرآني، للدكتور فاضل صالح السامرائي، دار عمار، عمَّان، ط 3، 1426ھ.
    16. البيان في غريب إعراب القرآن، لأبي البركات بن الأنباري، تحقيق الدكتور طه عبد الحميد طه، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1400ھ.
    17. تأويل مشاكل القرآن، لعبد الله بن مسلم بن قتيبة، تحقيق السيد أحمد صقر، دار التراث، القاهرة، ط 2، 1393ھ.
    18. التبيان في إعراب القرآن، لأبي البقاء العكبري، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط 2، 1407ھ.
    19. التحرير والتنوير، المختصر من "تحرير المعنى السَّديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد" لمحمد بن طاهر بن عاشور، بيروت، د. ت.
    20. التسهيل لعلوم التنزيل، لأبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي، تحقيق محمد عبد المنعم اليونسي، وإبراهيم عطوة، دار الكتب الحديثة، القاهرة، د. ت.
    21. التعبير القرآني، للدكتور فاضل السامرائي، دار عمار، عمّان، ط 4، 1427ھ.
    22. التفسير الكبير مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية، طهران - إيران -، ط 2، د. ت.
    23. تهذيب اللغة، لأبي منصور الأزهري، تحقيق مجموعة من العلماء، الدار المصرية للتأليف والترجمة.
    24. جامع البيان عن تأويل أي القرآن تفسير الطبري، لمحمد بن جرير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، القاهرة، ط 1، 1422ھ.
    25. الجامع لأحكام القرآن تفسير الطبري، لأبي عبد الله القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1408ھ.
    26. الجُمل، للزجاجي، مطبعة كلنكسيك، ط 2، 1376ھ.
    27. الجنى الداني في حروف المعاني، للحسن بن قاسم المرادي، تحقيق الدكتور فخر الدين قباوة، المطبعة الصليبية، 1393ھ.
    28. جواهر الأدب في معرفة كلام العرب، لعلاء الدين الأربلي، المطبعة الحيدرية، 1389ھ.
    29. الحجة للقراء السبعة، لأبي علي الفارسي، حققه بدر الدين قهوجي، وأحمد يوسف الدقاق، دار المأمون للتراث، ط 1، 1404ھ.
    30. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، لعبد القادر عمر البغدادي، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانكي، القاهرة، ط 3، 1409ھ.
    31. الخصائص، لأبي الفتح بن جني، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتاب الغربي، بيروت، د. ت.
    32. دراسات لأسلوب القرآن الكريم، لمحمد عبد الخالق عضيمة، دار الحديث، القاهرة، د.ت.
    33. الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي، تحقيق الدكتور أحمد الخراط، دار القلم، دمشق، ط 1، 1406ھ.
    34. درة التنزيل وغرة التأويل، لمحمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي، تحقيق الدكتور محمد مصطفى آيدين، مطابع جامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط 1، 1422ھ.
    35. دلائل الإعجاز، لعبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، ط 3، 1413ھ.
    36. ديوان ذي الرمة، شرح أبي نصر الباهلي، حققه وعلق عليه الدكتور عبد القدوس أبو صالح، دمشق، 1392ھ.
    37. ديوان النابغة الذبياني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر، د.ت.
    38. رصف المباني في شرح حروف المعاني، لأحمد المالقي، تحقيق الخراط، دمشق، 1395ھ.
    39. الروض الريان في أسئلة القرآن، لشرف الدين الحسن بن سليمان بن ريَّان، تحقيق عبد الحليم السلفي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط 1، 1415ھ.
    40. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، والسبع المثاني، لمحمود الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1403ھ.
    41. زاد المسير في علم التفسير، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 4، 1407ھ.
    42. سر الإعجاز في تنوع الصيغ المشتقة من أصل لغوي واحد في القرآن، للدكتور عودة الله منيع القيسي، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1416ھ.
    43. شرح شافية ابن الحاجب، لرضي الدين الاستراباذي، تحقيق وشرح محمد نور الحسن، ومحمد الزفزاف، ومحي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1402ھ.
    44. شرح كافية ابن الحاجب، لرضي الدين الاستراباذي، تحقيق الدكتور يوسف حسن عمر، منشورات جامعة بنغازي.
    45. شرح مفصل الزمخشري، لموفق الدين بن يعيش، عالم الكتب، بيروت، 1418ھ.
    46. غرائب التفسير وعجائب التأويل، لمحمود بن حمزة الكرماني، تحقيق الدكتور شمران سركال يونس العجلي، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، ط 1، 1408ھ.
    47. غرائب القرآن ورغائب الفرقان، لنظام الدين الحسن بن محمد القمي النيسابوري، تحقيق إبراهيم عطوة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، بمصر، ط !، 1381ھ.
    48. فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن، لشيخ الإسلامي أبي يحيى زكريا الأنصاري، تحقيق محمد علي الصابوني، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1405ھ.
    49. الكتاب، لأبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، تحقيق عبد السلام هارون، دارا الجيل، بيروت، ط 1، 1411ھ.
    50. كتاب الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، كملي بن أبي طالب القيسي، تحقيق الدكتور محيي الدين رمضان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 5، 1418ھ.
    51. كشف المعاني في المتشابه والمثاني، لمحمد بن إبراهيم بن جماعة، تحقيق مرزوق علي إبراهيم، دار الشريف، الرياض، ط 1 1420ھ.
    52. لسان العرب، لابن منظور، اعتنى به أمين محمد عبد الوهاب، ومحمد الصادق المهدي، دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط 1، 1416ھ.
    53. مجاز القرآن، لأبي عبيدة معمر بن المثنى، تحقيق الدكتور محمود فؤاد سزكين، مكتبة الخانجي، القاهرة، د. ت.
    54. المحتسب في بيتين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، لأبي الفتح بن جني، تحقيق علي النجدي ناصف، والدكتور عبد الحليم النجار، والدكتور عبد الفاتح إسماعيل شلبي، دار سزكين للطباعة والنشر، ط 2، 1406ھ.
    55. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن غالب ابن عطية الأندلس، تحقيق المجلس العلمي، فاس، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
    56. المخصص، لأبي الحسن بن سيده، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
    57. مدارك التنزيل وحقائق التأويل تفسير النفي لعبد الله بن أحمد النسفي، المكتبة الأموية، دمشق، مكتبة الغزالي، حماة.
    58. مشكل إعراب القرآن، لمكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق الدكتور حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 4، 1408ھ.
    59. معاني الحروف، للرماني، تحقيق الدكتور عبد الفتاح إسماعيل، مطبعة دار العالم العربي، القاهرة، د. ت.
    60. معاني القرآن، لأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء، تحقيق أحمد يوسف نجاتي، ومحمد علي النجار.
    61. معاني القرآن وإعرابه، لأبي إسحاق إبراهيم الزجاج، تحقيق الدكتور عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1408ھ.
    62. معترك الأقران في إعجاز القرآن، لجلال الدين السيوطي، ضبطه وصححه أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1408ھ.
    63. مغني اللبيب عن كتاب الأعاريب، لابن هشام الأنصاري، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، 1407ھ.
    64. معاني النحو، للدكتور فاضل صالح السامرائي، دار الحكمة للطباعة والنشر، بغداد، 1991م.
    65. مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق صفوان عدنان داوودي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، ط 3، 1423ھ.
    66. المقتضب،
    67. ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه من أي التنزيل، تحقيق الدكتور محمود كامل أحمد، دار النهضة العربية، بيروت، 1405ھ.
    68. نتائج الفكر في النحو، لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، وعلي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1412ھ.
    69. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، لبرهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي، إشراف محمد عبد المعين خان، دار المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، ط 1، 1389ھ.
    70. نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، لفخر الدين الرازي، تحقيق الدكتور إبراهيم السامرائي، ومحمود بركات، دار الفكر، عمان، 1985م.
     
  2. Haitham sadoon

    Haitham sadoon مشرف

    جزيت خيرا كوتش اسماعيل
     
  3. mohamedali

    mohamedali مشرف عام

    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
     

شارك هذه الصفحة