1. تنويه:
    تم إيقاف التسجيل في المنتدى مؤقتا، للتواصل أو طلب الانضمام للمنتدى، نرجو التواصل معنا.
    الأعضاء السابقون ما يزال بإمكانهم تسجيل الدخول.

عودة الملاك

هذا النقاش في 'الواحة' بدأه Haitham sadoon، ‏29 أكتوبر 2009.

  1. Haitham sadoon

    Haitham sadoon مشرف

    ناظم مزهر

    لَمْ أَرَ في حياتي أعجب و أبهى من خَفق ذاك الضياء الَّذي تراءى لي مثل شبح فسفوري غشى عينيّ بالرؤية الغريبة في ذلك اليوم المشهود، كان أشبه برجَّة كهربائية طاشَ لها صوابي و أقشعرَّ زغبُ ظهري برغم أنني كُنت أتصببُ عرقاً


    لِما كُنت أنوء به من أفكار وهواجس وأشواق أخيرة . مَنْ ذا الَّذي مرَّ خاطفاً وتركَ أثرَ أصابعه المثلوجة بين أضلعي ؟! إن لَم تكن أصابع المَنية فهي إذاً أصابع أمي التي كُلَّما جَنح غسقُ المغيب نَحوَ الظلمة الكئيبة، نادتني في انعطافة زقاقنا القديم أيام كنتُ صغيراً ألعب هناك. فشعرتُ وكأني أخرج من نفسي متناثراً في انفجار لحظة تعمي الأبصار ،اصطفقت كما الرعد في بوابات السماء أو دمدمة أبواب ثقيلة في غياهب السجون، فلَمْ يَرَ أحدٌ شكلاً نصف مرئي وهو يهبط نحوي ناصع البياض ويقتادني سِراً باستقامة لا انحراف فيها ثم يصعد بي، مخترقاً سقفَ زنزانتي ، على غيمة من وهج في رَمشة عين، إلى غيوم السماء، تحَفُّ بيّ عناقيد الضياء المتلألئة مثل شُهب أو نيازك في هويٍ مُستمر وكأنَّ الدنيا ، في تلك الليلة ، راحت تمطر ضياءً و ماء.
    في تلك الليلة الممطرة بالذات، وَجدت نفسي وكأني على موعدٍ معها، أهبطُ وحيداً بخفّة ريشة بيضاء، ورحت أبحث عن مهبط فوق سطح دارنا القديمة. كانت رياح شباط لم تزل تعوي في العرصات المهجورة من الزقاق مثل نواح الأرواح التي أثلجها مطر الليل هناك .لَمْ يرني أحد وأنا أهبط غير أن كلاب الحي استغربت رائحتي فَجُنَّ جنونها، لكن ما كان أسهل عندي النفاذ عبر الجدران بلا ضَجَّة أبواب مُرتَّجة ولا قلقلة أقفال . كنت قد دخلت في سكون تام عدا تلك الهسهسة الخافتة المنبعثة من حفيف خطاي وأنا أهبط السُلَّم المظلم الطويل كأنَّه راح يهبط بي إلى العالم السفلي.
    هكذا وجدت نفسي في غرفة أمي، كانت مثل سرداب واطئ السقف، فيه عفونة جص رطب، لكنه لم يكن يخلو من نفحات وردٍ يابس وآس مطحون وبخور دأبت أمي على إحراقها في ليالي الجمع الطِوال . كأن رعشة سرت في جوانحي وأنا افاجأ بأمي المسجاة .ما كان أشدّ امتقاع وجهها، حتى لقد تراءى لي أنها لن تستيقظ أبدا من إغفاءتها الطويلة، فلما شعرت بوجودي، كانت كمن يصحو من غيبوبة على حين فجأة، وتفتحت عيناها الملبدتان المتغضنتان ،كما لو أنّها خَرجتْ للتو من حفرة مظلمة عميقة الغور، وإذا بها تنظر إلى ما حولها بذهول، لكنها ، في البداية ، ما كانت تحدقُ بشيء البَتة، حتَى إذا ما استقرَّ نَظرُها عليّ أخيراً، اتَّسَعَت عيناها و بقينا هكذا مُسمريّن لحظة طويلة يتفحص كل منا صاحبه ، ولم أكن أعلم في البدء ما أقول لها، مثل مُخدَّر لا استقرار لقدميّه على ارض صلبة، وإذا بها تباغتني بالسؤال:
    -هل عُدتَ يا ملاكي ؟
    ولم يكن في نبراتها أية حماسة كأنها يائسة دأبتْ تُردد بوهنٍ السؤال نفسه كلما اشتدت الرياح وأقلقت الليالي الممطرة سكون الأبواب المقفلة .
    لكن يا إلهي ما كان أروع جمال وجهها في تلك اللحظة! كأنما عادتْ صبية ما رأيت مثل جمالها في حياتي لا قبل هذا اليوم المشهود ولا بعده.
    -نعم يا أمي ها قد عُدتُ إليك أخيراً. قُلتُ لها بلهجة الهادئ المستريب، فأفترَّ ثَغرُها عن ابتسامة تَجعَّد لها مَنبتُ أنفها واستطعتُ أن أرى الوشم الذابل أسفل الشفتيِّن لكن شفتيِّها ارتعشتا طويلا وهي تقول :
    -أفهم أنك عُدتَ مثل كلِّ مرّة تقذف بك رياح وأمطار الليل على وحدتي المثلوجة؟كأن صوتها قادم من جوف سحيق بلحن هاتفٍ واهن تردد صداه طويلا في ظلمة السراديب بصوت كأنه الفحيح. -كلا يا أماه، لقد أفرجوا عنا وعُدتُ إليك حَقاً هذه المَرّة. ونظرتُ إلى وجهها فإذا هو يشحب بشدة وفي عينيها قلق وشك تَحوّلا إلى أنين وتأوهات تصدر عن قلب مكلوم وراحت تهزُّ رأسها نفياً كأنما تبذل قصارى جهدها لتصدق حكايتي و لتُخفي عني اضطرابها وهي تنظر إلى أظفار أصابع يديّ وقدميّ الحافيتين لتتأكد من صحة وجودي أمامها .

    -أفهم أنك عُدتَ إلينا إلى الأبد هذه المرة؟ -نعم أفرجوا عنّا إفراجاً أبدياً.وإذا بها ترفع نظرة مرهقة، وأيقنت أنها راحت تهذي وتُكلِّم نفسها كأنما هي نسيت أنها ليست لوحدها، وراحت تتحدث بلا شعور فيما يشبه الهمس وكأنها هي نفسها لا تفهم ما تقول: -هل تعلم يا ملاكي أنك كنت لي دائما بمثابة رجل البيت وأنني أمضي إليك كل ليلة أستمع إلى بكائك يا ولدي؟ ثم وهي تنكمش على نفسها، رمقت أصابعي بنظرة ملتهبة ملأى بالشفقة وسألتني بحدة:
    -وهل تعذبت يا ملاكي؟-كلا يا أماه لقد انتهى الأمر بهدوء.-ولكني في الليالي كنت أسمع نحيبك يصلني؟
    ـ ولكن يا أمي لعل كل هذا تهيؤات. وكأنها بتلك النظرة المذهولة حاولت أن تتعلق بي بَعْدَ أن شعرت بهول مجيئي، وأرادت أن تقول شيئا آخر ولعلها بدأت الكلام بشفتين مرتعشتين لكنها عادت إلى اغفاءتها فجأة بمثلما استيقظت.أنهضتها وضممتها إلى صدري فإذا بها تشدَّني بقوة لَمْ أتوقعها ودفنتُ رأسي في حضنها وهي تردد بصوت صاف لَمْ تؤثر به العبرات :ـ ولكن قُلْ لي هل تعذبت يا ولدي؟ - كلا، قُلتُ لَكِ ،لقد انتهى الأمر بهدوء يا أمي.
     
  2. mohamedali

    mohamedali مشرف عام

    لك مني أجمل تحية .
     
  3. mohamedali

    mohamedali مشرف عام

    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك
     
  4. Haitham sadoon

    Haitham sadoon مشرف

    مشكور مرورك الجميل استاذ محمد عبد الوهاب
     

شارك هذه الصفحة