1. تنويه:
    تم إيقاف التسجيل في المنتدى مؤقتا، للتواصل أو طلب الانضمام للمنتدى، نرجو التواصل معنا.
    الأعضاء السابقون ما يزال بإمكانهم تسجيل الدخول.

حبر على ارق

هذا النقاش في 'الواحة' بدأه Haitham sadoon، ‏11 نوفمبر 2009.

  1. Haitham sadoon

    Haitham sadoon مشرف

    شوقي عبدالأمير

    لكتابة بدمِ اللّوتس.. إلى فاروق حسني
    [​IMG]

    في دارته التي تجثو على النيل وكأنها مركب يتشبّثُ بالجرف لكي لا يجري مع الماء. هناك التقيتُه والنيل الذي يجرح مجراه ويسيل بدماء العصور.


    هناك كنت أتهجّى القاهرة، أسمّي شوارعَها وأزقّتها عائداً من "الشارع الأعظم"، شارع المعز الذي نفض غبار القرون وركام الانهدامات في الجسد الامبراطوري العربي الإسلامي ليتوشّحَ ضوءاً وفجراً جديداً.
    في ليل القاهرة تدرك أنك لن تستطيع الدخول إليها ليلاً ولا الخروج منها فجراً. فالدخول إليها ليلاً، هو الدخول إلى بهائها بغموضه ونوره الخفيّ، هو ملامسة جسدها يستريح إلى النيل، هو الاحتفال مع مصابيحها بالعيون الشاردة والأغاني التي تسبح كالبجعات، هو الالتقاء بأطيافها عابرة التاريخ، حافية إلاّ من مجدها وتفرّدها، هو الاحتماء بأبراجها ومآذنها المرصّعة بالصلوات والتواشيح، هو التبخُّر مع دخانها المطيّب من أفران الخبز وحارات العشب المَصُون، هو التوحد لها حيث تَعرفُ وبكل هَواها أن تتوحّدَ لكَ، هو الاحتمالُ الذي يظل أبداً في مرآتك أنك في مكان المكان وأنك تمضي، تعود إليها ولن تخرج منها.
    لن تدخل القاهرة ليلاً، لأنَّ المصابيح أذرع علوية تمتد لترفع جلباب الليل عن مفاتن الجسد - المدنية فهي تعرى مع كل زخة نور وهي تنام بجوار نيلها وقد نبتتْ فيه الأشرعة والشهقات وعندما تفلت من يد النيل في حضرة هذا الليل المختوم بالأسرار منذ فجر الخليقة فإنك تدخل إلى أسرّة من الوجود والتجلّيات حيث المدينة لا تنام لترقد بل تحتفي بالعَتَمة لتلتقي وعتماتِ الروح التي لا تُضاء إلاّ بالدموع والمواويل والذِّكرَ.
    هناك حيث رأس الحسين على قامة المئذنة، رمح لتاريخ الجريمة المؤسِّسةِ لحضارةٍ من الوجد والمراثي والجُنوحِ المستمر لِنَعْي الحياة. هناك في ظل هذا الرأس الذي حُمل من كربلاء في سواد العراق يُقيم النعيُ مواسمَه لدحضِ البهجةِ الأولى في الإلتقاء بالحياة. وكيف نلهو ورأسُ الحسين معلّقٌ على رُمحه في انتظار أن يجيءَ أحدُ أحفاده مَهديّاً يحملُ بيرق الخلاص.
    ولكن لا أحد ينتظر هناك. لأن الانتظار قُدرةٌ على صهر الزمن وتصنيع معدنه بشتى الابتكارات ولا أحد يقدر على ذلك لأن الجميع في "الحسين" يعيش في مَصهرٍ واحد ينتجُ آلافَ العيّنات الانسانيّة المتفردة في إخلاصها لحيواتِها ومعتقداتِها، لبؤسِها ومَكرِها، لفنِّها وأهوائِها...

    أهداني أحد المصلّين الذين يفترشون الشارع في مواسم الزيارة بعد أن تغصَّ حضرةُ المسجد بالزوار، قِطعةً من "عَيش" مغموسةً في صَحنٍ من الفول وقد تناولتُ معهُ بقيةَ الطبق، فلم أجد أسعدَ منه وقد أضاءتْ عيناه كمصابيحَ تتّقدُ للوهلة الأولى... ظل صامتاً يرقَبُ حفاوةَ هذا الاقتسام بقدسيّة ولم يفتحْ فمَهُ بكلمة...
    لن تودّع القاهرة فجراً... لأن الخروج منها في الفجر هو الإحساس الأعمق بأن كل شيء ينأى وأنها تنزف آخر شرايينها وتجفف مآقيها، ولأن فجر القاهرة هدوء مكتوم، سقفٌ من المنائر والعمائر والشواهد يغطي أجيالَ الأسرار ولو لساعات... فجرُ القاهرة رميمٌ يحيا فإن ابتعدتَ عنه فأنت تنزعُ أحدَ معالم الحياة فيه، تدفعه أن يبقى رميماً. فجرُ القاهرة غابةٌ من الأحلام المطبقةِ على النوافذ والسطوح، في الأزقة وفي الأسواق، أحلامٌ كثيفة، غاباتٌ ستحترقُ بعد ساعات تحت شُعلةِ شمس متوسطية يملأ دخانُها كُلَّ الحاضر العربي والمتوسطي. فَجرُ القاهرة يتَّشِحُ بالقِبابِ والغيابْ. أمكنةٌ في طُوافٍ حول نُقطةٍ واحدة هي ضريحُ الحاضر.

    لكن الزمن هنا جارف، يَجرفُ حتى النيل والمقدسُ عباءة يثقبُها كلُّ مِبْضَعٍ. المقدسُ هو الحياةُ والحياةُ لمن يحيا.
    في الفجر تهبط أبراجُ القاهرة إلى الأرض. تَنزلُ إلى الشوارع وتلتقي بأهلها، بالفقراء والباعة الذين لا يعرفونَ إليها سماءً عندما يُخيّم الليلُ ولا هي تلتفتُ نحوهم وترمُقُهم شزراً.
    رأيتها، هي الأبراجُ، تحنو على السابلة الأخيرة تبدأ نهاراً جديداً. رأيتُها تستيقظ، تَفرُكُ عيونَها المزججةَ وتتمطّى بأسمنتِها وأحجارِها وهي تُصغي لنداءاتِ الباعة وزبائِنهم من عمال الفجر، رأيتُها معتمةً في حين كانت النارُ الطالعةُ من أفرانِ الخُبز والفولِ تُضيء الشوارعَ باشتهاءٍ للحياة لا مثيل له.
    رأيتها تُثقِلُ بوطأةِ حُمولتِها صدرَ القاهرة الذي يتنفس الصعداء وهو يستقبلُ ندى الفجر ويحتفي بعراءِ شمس جديدة.
    رأيتها الأبراج بهاماتِها العالية تبدو أدنى من رُكب الأطفال وهم يخرجون ركضاً إلى المدارس، عندما تَفتحُ الحاراتُ والبيوت أبوابها مثل صدور الأمهات بالأدعية والشهقات.
    رأيتها الأبراج رماديةً في الفجر لا يقدر حتى ضوء النيل الفضي أن يمسح عن جبينها سُحنةَ الإسمنت وعرق الألمنيوم الذي يقطر أسودَ من واجهاتها...

    لن تدخل القاهرة ليلاً ولن تغادرها فجراً، كما لن تعبر من النيل إلى المتوسط... لأن ذلك يعني أن هذا الأخير يتحول إلى بُحيرةٍ جرداء... مخلّفاً وراءَك الأضرحةَ الفرعونية ذات الملكوت اللامتناهي غيباً وجمالاً تَحُفُّ بموكبِك على ظهر المراكب الملكية تتهدج موجاتُ النيل كالبجعاتِ في سيمفونية التاريخ والخليقة. القرى والوجوه والأغاني الطينيّة تُلَوِّحُ بيديها الصلصاليتين المفخورتين بالشمس والفقر والانتظار، تُؤطِّرُك بعالمٍ طقوسي تصير فيه الأرض معبداً فرعونياً، سقفُهُ سماءٌ مرصوفةٌ بموزائيك الأدعية والتواشيح والصلوات، النخلُ آياتٌ عمودية تتدلى منها أعذاقٌ من الأعجاز تهزّ جذوعها وأنت تنظر إليها وتهزّ كيانك وهي لا تلتفت إليك، ليسّاقطَ تَمرٌ شهيٌّ فوق أرض تَتَشقّقُ مثل قَدمين حافيتين ومدن تَتنفسُ غبارَ المصائرِ المندثرة فيها.
    أن تعبر إلى المتوسط وأنت تُمسك بذراع النيل، ذلك يعني أن تدخلَ الحاضرَ من أجوافِ معابد ومقابرَ حفَرَ الأبدُ فيها أجمل آياته ولوّنها بأسرارِ حكمتِه العاشقة، حيث كانت تَطفو فوق النيل مراكبٌ بُنيتْ من أضلاعِ القفص الصدري لآلاف الفلاحين المصريين وهي تحمل بأذرعِها السمراء جبالاً من الغرانيت. كيف تخرجُ هذه الأحفادُ الغرانيتيّةُ من سلّة الأبد لتُباعَ في أسواق العصر البلاستيكيّة؟ هذا هو السؤال الذي يظل ممدداً كالنيل.

    كيف تَعبرُ من بحر الخلود والأبد المنحوت بآلهة من الأعمدة "وفرعون ذو الأوتاد" وبملكات من الأسوار والقلاع...
    كيف تعبرُ من دم آلفيّ لم يتخثّرْ بعد، ومن شفةِ اللّوتس التي لم يجف نداها وهي على ضريح إخناتون يُعَمِّدُ نسـغُها الأبيض المذبحَ كدمٍ أحمر...
    كيف تعبرُ من هيكل عانق الشمس في كل أطيافها، أمسك بيديها وهي في حافلة الأساطير تتكسر في كل مرايا الكون دقيقة دقيقة غير آبه بشيء...
    كيف تعبر من الشرق - الميلاد - النور - الخلق - النار - التكوين، إلى الغرب - الموت - المقبرة - الليل - الانطفاء - التفكك ولم تجد بعد مكانك في مركبة الخلود الفرعونيّة؟
    أجل لن تعبر من النيل إلى المتوسط لأن ذلك سيعني أيضاً أنك تقودُ منارةً مملوكيةً إلى شواطئ الاسكندرية لتضعها في موقع الفنار الاسكندراني الغارق بعد أن دُمّرت السفن واحترقت أم المكتبات عندما كان التأريخ البشري يحفر أشكاله وطلاسمه فوق حشد من الرقاق والبرادي والرُقم الطينيّةِ والصفحات في مكتبة الإسكندرية.
    لا أغريق، لا قياصرة، لا فرس ولا فرنسيّون يؤمون هذه الشواطئ ليحفروا فوق أَديمها صور أبطالهم ومداراتِ تجلّياتهم وخرائطَ جنونهم وجنوحِهم المبكر في جسد الأرض ولم يبق منهم إلاّ دمُ الوشم المتخثر في الذاكرة.

    كفافيس، أراه يبكي من نافذة بيته في الاسكندرية غير آبه بآلاف الكتب والمنحوتات الإغريقية المكدّسة خلفه.
    نابوليون يتدحرج من قمة الهرم إلى أعمق قاع في انهياره مروراً بسانت هيلانه إلى اليوم...
    القيصر يبحث له عن قَبرِ فرعوني مطرّز مثل أردية كليوباترا قُربَ بركةِ حمامِها في مدينة "قنا" الصعيدية.
    أما الاسكندر فقد ترك على الشاطئ الجنوبي من المتوسط أبهى أشكال بقائه: الإسكندريّة.
    لن تدخل القاهرة ليلاً
    لن تخرج منها فجراً
    ولن تعبر من النيل إلى المتوسط
    لاءات بين أخرى سواها تتعلمها وأنت تُلقي بأيامِك مثلَ حجرٍ في النيل، حجرٍ أزرق في النيل الأزرق، النيل هذا الجرح اللا يشفى.
     
  2. mohamedali

    mohamedali مشرف عام

    شكررررررررررررررررررررررا
     
  3. Haitham sadoon

    Haitham sadoon مشرف

    مشكور مرورك الجميل استاذ محمد عبد الوهاب
     
  4. شكرا استاذ هيثم سعدون
     
  5. Haitham sadoon

    Haitham sadoon مشرف

    مشكور مرورك الجميل استاذ محمد عبد الله
     

شارك هذه الصفحة