1. تنويه:
    تم إيقاف التسجيل في المنتدى مؤقتا، للتواصل أو طلب الانضمام للمنتدى، نرجو التواصل معنا.
    الأعضاء السابقون ما يزال بإمكانهم تسجيل الدخول.

خيمة على بحر... الطويل

هذا النقاش في 'المنتدى العام' بدأه Haitham sadoon، ‏11 ديسمبر 2009.

  1. Haitham sadoon

    Haitham sadoon مشرف

    شوقي عبدالأمير

    هل تُشبهُ اللغةُ العربيّةُ الصحراء؟
    يبدو مثلُ هذا السؤال بعيداً عن الذهن في أغلب أطراف الخارطة العربية إلاّ مكاناً واحداً: موريتانيا. بين بحرين رمليّ ومائي يخفُضُ الطائر المعدني المثقل بالركب والأمتعة جناحاً ليقترب شيئاً فشيئاً من دارة هذا الموطن العربي "نواقشوط" الذي تراهُ وأنت في الأعالي يتوضأ بالماء لقدميه ويتيمّمُ بالرمل لجبينه وساعديه ليقفَ إلى الصلاة واجداً قِبْلتَه بين لا نهائيتيّ البحرِ والصحراء..


    تُلامس عجلات الطائرة المدرجَ كما يلامس وجهُك الهواءَ الساخنَ لتدخلَ من بعد حاضرةً للحاضر ترتدي (درّاعة) "دشداشة موريتانية" موشاةً كجدار أندلسي، مُشرعةً من جميع الجهات كباحةٍ دمشقيّة ولا نافورةَ فيها إلاّ القصيدة.
    أجل، في موريتانيا تُشبه اللغةُ العربيّة الصحراء، فهي - أسرابٌ ومرادفات، أشطارٌ وأعجازٌ، إعجازٌ وإيماءٌ، وهي سراب ما ينفكّ يسطعُ بين متحدث ومنشد وهي مدىً لا متناه لا سقف له إلاّ السماء وهي الأرض الأرحبُ حيث الكل سواسية كفتحات (فَعَلَ) الفعل الماضي. أفعالٌ ماضيةٌ مضتْ وأخرى لن تمضي فهي لا تلتفتُ إلى "أنيتُ" هذه الفتاة المضارعةُ المنتهكة التي لا حِمى لها ولا مُغيث.. "أ.ن.ي.ت" قد نصافحها هنا ونجلسُ إليها أحياناً ولكننا لا "نُصرّفُها" إلاّ إضطراراً، إلا أننا عندما نَقفُزُ إلى حُضنِها ننسى كل شيء!
    واللغةُ العربية تشبه الصحراء في موريتانيا حيث حواشي الكثبان وحدودها هي الأخرى تتداخلُ بين الأسماء والمتحركات والظروف التي لا تخضع إلاّ إلى سطوة السيد الشعر، بمنطقهِ الموحَّد القافية والسجيّة تحت سقف الغنائية بِتَرفِها رملاً وكلاماً..
    بين الربع الخالي في صحراء الجزيرة العربيّة الذي نام آلاف السنوات ليستيقظ على صوت "إقرأ" وبين الربع الغنائي الذي يهدهده "فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن" يتمددُ الجسدُ - الحلمُ الموريتاني وقد أرخى "سدولَهُ" في الشنقيط، هذه العاصمة الكوفيّة التي هاجرت إلى شواطئ بحر "الظلمات" كما تسميه العرب، - أي المحيط الأطلسي، - هناك عندما غرزَ موسى بن نصير في خاصرة الشاطئ الرملي رمحاً، وحدّق في مدىً أزرق أمامه ليخاطبه: يا بحرُ إن كان خلفك ناسُ لعبرتُ لهم أدعوهم إلى كلمة الحق...
    وكان ناسُ ولم يكن ناس. فأقام "رَباطاً" وكانت البوصلة شمالية الهوى ولم يصل إلى تلك الأصقاع، ولم تمر ريح شرقية أندلسيّة لتطرز جدران الصوامع هناك ولا لتخدع الليل بالنوافير والمساءات بالشبابيك المحفورة في الجدران كالحدقات في الوجوه...
    لكن الشنقيط كانت ولما تزل تقاوم عناد الرمال التي تزحف "كالليل الذي هو مدركي" ولا مُدركها.. والشنقيط قصيدة عربية سمعتها على لسان راوية مات في باريس وهو يتحدى الشانزليزيه بمنائر الطوب ومصابيحَها بالنجوم. لم أقرأ رسومها وحروفها، لكنّي أراها تخرج من قوافيه تلقي رحالها لتقيم بجمال هوادجها وأسرار حكمةِ أعمدتها السبعة في الطرف الآخر من الصحراء العربيّة.
    أجل صرت أكثر اقتناعاً الآن بعد مرور يومين على إقامتي في هذا البلد بأن اللغة العربيّة تشبه الصحراء أو العكس. جرّب أن تنظر إليها عمودياً من أعلى قمة في عمود الشعر العربي، كأن تتكئ على كتف بن ربيعة، لبيد العامري بأعوامه الثمانين وهو يلقي بوجه الصحراء معلقته الخالدة التي بـ"منى" تأبّدَ غولُها.
    كما يمكنك أن تتسلق إلى أعلى نقطة في عامود الألف، هذا الفسطاط الذي أقامت فوقه اللغة العربيّة خيمتها تلك التي تذكرك بالخيمة التي ضربها الشعراء الموريتانيّون لاستقبالك على البحر فكانت خيمةً على "بحر الطويل" لا على بحر الظلمات ولا على أوقيانوس الأطلس ولا على المحيط...، سترى أن امتدادها لحناً وصدى يصل إلى مدارات الداخل وأن لهذه اللغة كثبانها ورمالها التي نحملها في الأعماق. القصيدة خيمة ولها عمود ونسيج ومُهاجرون رُحَّلٌ أبداً...
    خيمةٌ هيَ ترتطمُ بموجاتِ البحر العربي الأبهى حيث الشعر يدخل ملكوته مثل جَمَلٍ ينأى بأعجازه وإعجازه في ليلةٍ كان لبشرةِ المساء فيها طراوةُ العشب النديّ ولبتلاّتِ الرمال هشاشةُ الغيمة وللذاكرةِ وابلٌ.. أوّاه.
    لم تكن كثبان الرمل إلاّ قطيعاً منهمكاً بشربِ ما تبقى من برك الليل وقد مزّقتها آلاف النجوم... لم يكونا ندين: الشعرُ وخوارُ المحيط فقد هَزَمَ الشعرُ المحيطَ وظل البحرُ الطويل يعلو بقوافيهِ وغواربهِ. ونحن، بخيمتنا ونشيدنا على شاطئه، مقيمون "لأهلنا محبّون".
    في تلك الخيمة التي ضُربتْ لي على "بحر الطويل" في موريتانيا تذكرتُ حتى أول شطر في دفتر صباي الشعري حيثُ كنت يومهاأخاف أن أسمّيه شعراً. صرتُ أنبش أحشاء ذاكرة مهجورة مثل نسر جائع يفتك بفريسة دافئة اللحم.
    أراني لساعات أتقرى طفولة، أحاول منهمكاً اللحاق بركب قافلة أو الترنم بمقطوعة عربية لم تبرحْ قيلولةَ النشيد، وقد دخلت منذ سنوات لَيلةُ العميق.
    كان الأعشى لا يأبه بالمعلّقة أكانت حقاً العاشرة أم لا، أمام مرأى هريرة.. وكنت، وللمرّة الأولى، أحاول أن أتصور بشكل مُلحٍّ هيئة وملامحَ شُعراءِ المعلّقات خاصة عبيد بن الأبرص الذي ربما رأيت فتىً ذكّرني به في تلك الخيمة.
    لقد انتصر "الطويل" على "الأطلسي" وصارت شواطئ القصيد أكثر إيواءً وإيلاءً لمراكب المبحرين والغواة من ورائهم في تلك الليلة التي لم أرَ فيها إلاّ خيمة واحدة محاطة بآلاف النجيمات والجفنات والكثبان والأصداء.. خيمة كان فسطاطها العمود الفقري لليلٍ يشبه كائناً أسطورياً ونحن أطفال عُراة نلتفُّ على نسيج اللغة والأغاني كبدوٍ داهمهم البرد في ليل أصحر.
    بينهم كنت جملاً مثقلاً برحل غريب لا يَلحقُ بماشيةِ "الهيدبي" وهو يقول لنفسه "أين أرض العراق" فيجيبه الركبُ "ها".
    ارتديت في اليوم التالي درّاعتي مثل بعير يرتدي هودجاً ومضيت شرقاً باتجاه الشمس والصحراء واللغة.. كنتُ أجفف عباراتي مثل غسيل رطب في ريح السموم وأنشر نهاري مثل قطن قديم يخرج من بين طيّات دثار مهجور. كنت أخرج من الرمل إلى الرمل أحدّث الرمل عن الرمل وأكتبُ الرمل على الرمل وأراني في الرمل والرملّ فيّ.
    كان صديقي يحاول تحديد الموقع الأفضل لكي أقترب أكثر من الأعماق المهجورة فيّ ولكي أُمضيَ بشكل أصفى لحظةَ الحاضر، لأغسل فيها أقدام السنوات المكدّسة. وكان يبحث بين الفينة والأخرى عن خيمة مثل باريسي يبحث عن أفضل مقهى أو فلاح عراقي يبحث عن أطيب نخلة، كان يفتش بين الكثبان عن "زَمكانٍ" تَخرُج فيه الصحراءُ كحورية لعاشقٍ في بحر...
    كان يبحث بين أكمام الرمل عن أزهار لم أرها قبل وعن حدائق كثبان تُسقى من أقدام عارية ومآق مشرقة وكنا نمضي إلى خيمة كما يمضي الفتيان إلى صبوة، أو كما يهرول إبني في باريس وبيروت إلى حفلة. Party
    هي الصحراء إقتربت لتكون أدنى إلى شفتي منها إلى قدمي ولأرى منها موريتانيا وهي مُضاءةً بفوانيس من زيت الشعر، مُسوّرة بأطلال ورُسومٍ وكأن القلبَ العربي لم يزل "يتلفّت" نحوها اليومَ بعد إنهيال رمال السنواتِ على قسمات الوجه العربي.
     
  2. مشكور استاذ هيثم سعدون
     
  3. mohamedali

    mohamedali مشرف عام

    مشكوووووور
     
  4. Haitham sadoon

    Haitham sadoon مشرف

    مشكور مرورك الجميل استاذ محمد عبد الله
     
  5. Haitham sadoon

    Haitham sadoon مشرف

    مشكور مرورك الجميل استاذ محمد عبد الوهاب
     

شارك هذه الصفحة